صبيحة السادس من شباط/ فيفري الجاري، وفي غمرة الانشغال بجريمة اغتيال الزعيم اليساري المعارض شكري بلعيد، لم يلتفت العديدون إلى ما ورد في الصحف الصادرة في نفس اليوم بخصوص إمكانية تشكيل حكومة كفاءات وطنية أو تكنوقراط تخلف حكومة الجبالي المترنحة بفعل التجاذبات الحزبية التي تمزقها.

صبيحة السادس من شباط/ فيفري الجاري، وفي غمرة الانشغال بجريمة اغتيال الزعيم اليساري المعارض شكري بلعيد، لم يلتفت العديدون إلى ما ورد في الصحف الصادرة في نفس اليوم بخصوص إمكانية تشكيل حكومة كفاءات وطنية أو تكنوقراط تخلف حكومة الجبالي المترنحة بفعل التجاذبات الحزبية التي تمزقها.

هناك من رأى في طرح رئيس الحكومة حمادي الجبالي لفكرة تشكيل حكومة التكنوقراط، مناورة لامتصاص الغضب الشعبي الناتج عن اغتيال بلعيد. وقبل يوم واحد فقط نشرت إحدى الصحف اليومية نصّا كتبه أبو يعرب المرزوقي الوزير المستشار لدى رئيس الحكومة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك بعنوان “حكومة الجبالي لا يدري أعضاؤها ما ينتظرهم”.

النص، الذي كتبه، الوزير المرزوقي استثنائي بكل المقاييس، لأن صاحبه لم يلتزم بواجب التحفظ الذي يفرضه مركزه الحكومي. وتحدث بكل صراحة عن واقع الانقسامات والصراعات التي تهز أحزاب الترويكا الحاكمة النهضة والتكتل والمؤتمر. كما تحدث عن الانقسام في صلب حركة النهضة نفسها والصراع الدائر فيها بين زعيمها التاريخي راشد الغنوشي وأمينها العام رئيس الحكومة حمادي الجبالي.

لقد كان الصراع بين أقطاب الحكم وداخل النهضة ذاتها، صراعا حقيقيا، والعمل الحكومي كان شبه مشلول.

النهضة تنجح مجددا

لم تكن حادثة اغتيال شكري بلعيد سوى القطرة التي أفاضت كأس الجبالي ودفعته للتعجيل بطرح مبادرته التي نصت أساسا على أن يلتزم أعضاء الحكومة غير الحزبية المقترحة بالتفرغ بشكل كامل لإدارة دواليب الدولة وعدم الترشح للانتخابات القادمة، وتحقيق وفاق سياسي داعم لها لا يستثني أحدا.

لكن قيادة النهضة وأساسا حليفها حزب المؤتمر رفضا هذه المبادرة واعتبراها انقلابا أبيض على الشرعية الانتخابية التي تسلموا بموجبها مقاليد الحكم. وبلغت الهستيريا ببعض وزراء المؤتمر حدّ اتهام رئيس حكومتهم بأنه يمثل الثورة المضادة!

في المقابل دعم حزب التكتل الشريك الثاني في الحكم ورئيسه مصطفى بن جعفر الذي يتولى كذلك رئاسة المجلس الوطني التأسيسي مبادرة الجبالي، ملتقيا في ذلك مع طيف واسع من المعارضة ممثلة في الجمهوري ونداء تونس، فيما اختارت الجبهة الشعبية النأي بنفسها عن المعركة الجارية استنادا إلى معطيات شكلية، حيث اعتبرت قيادة الجبهة أن دعوتها للحوار مع رئيس الحكومة لم تراع فيها أصول اللياقة.

حركة النهضة التي نجحت في امتصاص حالة الغضب الشعبي وكسر العزلة السياسية المضروبة عليها بعد اغتيال بلعيد، تمكنت من عكس الهجوم وتقديم مقترح بتشكيل حكومة تجمع بين السياسيين والكفاءات فخلقت حالة من الإرباك في صفوف خصومها الذين انقسموا حيال هذا المقترح بين رافض ومستعد للتعاطي معه.

وأظهرت حركة النهضة مرة أخرى اقتدارا في قلب المعادلات التي تكون فيها في وضعية صعبة، في حين أظهر خصومها ضعفا في المناورة وتشتتا في مواجهة الموقف جعلهم يضيّعون أوراق الضغط الرابحة لديهم.

وضعت قيادة النهضة أمينها العام حمادي الجبالي بين فكّي كماشة من خلال اتهامه الضمني بالخيانة من جهة، ومن جهة ثانية عرض التجديد له على أساس برنامجها هي وليس البرنامج الذي تحداها بالتمسك بالدفاع عنه للآخر، بما يفقده مصداقيته ويعجل بالإطاحة به في كلا الحالتين.

لكن رئيس الحكومة لم يسلّم في مبادرته وصولا إلى تقديم استقالته إيفاء منه بالوعد الذي قطعه على نفسه بالتنحي إذا لم تنجح مساعيه. ولم يفوّت الجبالي الفرصة لتسجيل عديد النقاط لفائدته وكسب الرأي العام إلى جانبه من خلال التركيز في الكلمة التي أعلن فيها تنحيه على خيبة أمل الشعب الكبيرة في نخبته السياسية وتقديم اعتذاره عن كل نقص أو تقصير شاب عمله.

المهمة الصعبة

المكلف الجديد بتشكيل الحكومة علي العريّض لن يجد الطريق أمامه مفروشة بالورود خاصة وأن سلفه قال بشكل واضح بأنه يرفض الانخراط مجددا في تشكيل حكومة لا يرى لها فرصا للنجاح.

الوضع الاقتصادي المشرف على الانهيار رغم الأرقام الوردية التي يصر على الاستشهاد بها بعض الوزراء السابقين، والوضع الاجتماعي المتأزم مع توسع قاعدة الجريمة والفقر، والوضع السياسي المحتقن مع إصرار بعض التشكيلات السياسية على السطو على الثورة واستغلال عملية الاستيلاء هذه لإقصاء القوى التي تشكل تهديدا جديا لنفوذهم، والانفلات الأمني في ظل تنامي ظاهرة انتشار السلاح وسطوة المجموعات العنيفة والميليشيات المرتبطة ببعض دوائر الحكم، كلها مؤشرات تدلل بوضوح على أن مهمة العريّض ستكون صعبة. فهل سينجح فيما فشل فيه سابقه؟

الجبالي أوضح أن الحكومة المقبلة يجب أن تكون حكومة كل التونسيين تضمن حرية المواطنين في النشاط والاجتماع وتتحمل فيها الدولة مسؤوليتها في تأمين حرية المواطنين ولا تقبل أن يقوم بدورها أي تنظيم أو لجان أو غيرها.

والجميع في تونس يدرك أن هذه الوصفة مستحيلة لأن الأطراف الأساسية في الحكم تعتمد مبدأ الإقصاء وتدافع عن الجماعات العنيفة التي تعتبرها “ضميرا للثورة” وتعطيها الغطاء الذي يمكنها من ارتكاب جرائمها في ظل الحصانة الكاملة والحماية من أية مساءلة أو محاسبة.

وهناك مؤاخذات عديدة حول إدارة علي العريّض لوزارة الداخلية حيث شهدت فترة إشرافه على هذه الوزارة الهامة أكبر حوادث الاعتداء على المواطنين والصحفيين ونشطاء المجتمع المدني والسياسي.

وشهدت ولاية العريض الهجوم الارهابي على السفارة الأمريكية الذي لم يكشف بعد عن كامل الحقيقة بخصوصه. كما شهدت أول عملية اغتيال سياسي في إطار دولة الاستقلال ذهب ضحيتها شكري بلعيد أحد أبرز قادة المعارضة التونسية وأشدهم بأسا في مواجهة سياسات حركة النهضة وأطروحاتها.

ويطرح عديد المتابعين للشأن التونسي تساؤلات حول صحة ما يروج عن اختراق حركة النهضة لوزارة الداخلية وتشكيلها لأجهزة موازية ترتبط بشبكات إرهابية.

من خلال متابعة تطور الأحداث يمكن التوقع بأن يكون حمادي الجبالي هو المستفيد الأبرز مما يحصل. فالرجل كسب باستقالته تعاطفا شعبيا جعله يتخلص من عبء فشل حكومته ليتحول إلى رمز للصدق والنزاهة والوطنية الخالصة ترى فيه شرائح واسعة من التونسيين صورة القائد المنقذ.

وعودة الجبالي إلى حضن حزبه خلافا لما توقعه البعض من إمكانية انشقاقه عنه، يجعله في موقع المتربص في الظل في انتظار تأكد نبوءته بفشل خلفه، والعودة إلى الحكم من الباب الكبير. لكن في ظل معادلة جديدة قد تشهد انقسام حركة النهضة واضمحلال شركائها الصغار الذين قادتهم إلى مواقع القرار مصادفة تاريخية لا يمكن أن تتكرر. في الأثناء لا يمكننا أن نستبعد حصول موجة من الاضطرابات التي قد يدفع البلد ثمنها غاليا.