في باب بحر وسط مدينة قابس بالجنوب التونسي يجلس عبدالله النفوسي رفقة بعض أصدقائه في مكتبته الصغيرة لكن المعروفة، يجدون فيها المتنفس الوحيد لتبادل الآراء بين المنتمين لعديد التوجهات الايديولوجية والثقافية، ومكانا مناسباً لتذكر الزمن الجميل.

صاحب هذه المكتبة يتعرض لتهديدات شتى، من جهات يجمعها أنها إسلامية، لأنه يعرض صحيفة  “ضد السلطة” لتوفيق بن بريك الصحفي الذي كان معارضا شرسا للرئيس السابق بن علي ويواصل اليوم معارضته لحكم الإسلاميين. 

في باب بحر وسط مدينة قابس بالجنوب التونسي يجلس عبدالله النفوسي رفقة بعض أصدقائه في مكتبته الصغيرة لكن المعروفة، يجدون فيها المتنفس الوحيد لتبادل الآراء بين المنتمين لعديد التوجهات الايديولوجية والثقافية، ومكانا مناسباً لتذكر الزمن الجميل.

صاحب هذه المكتبة يتعرض لتهديدات شتى، من جهات يجمعها أنها إسلامية، لأنه يعرض صحيفة  “ضد السلطة” لتوفيق بن بريك الصحفي الذي كان معارضا شرسا للرئيس السابق بن علي ويواصل اليوم معارضته لحكم الإسلاميين. 

من بين مؤاخذات هؤلاء على النفوسي أيضا عرضه لكتب محمد الطالبي، العالم الاسلامي الذي يدعو الى قراءة تحديثية للقرآن الكريم وإلى إلغاء الشريعة باعتبارها تتضمن أحكاما صادرة في حقبة ماضية وتتنافى مع حقوق الإنسان، وقد لاقى فكره معارضة من طرف بعض المتطرفين وصلت إلى حد تكفيره.

يقول السيد عبد الله النفوسي لـ “مراسلون” ان التهديدات التي تصله “ضمنية” و”مباشرة”، من ذلك يقول: “أربعة أئمة جاؤوني الى المكتبة ونبهوني بأنهم لا يتحملون المسؤولية إذا قام أحد الغيورين على الإسلام حسب تعبيرهم بحرق المكان”.

هذه التهديدات لا تخيف النفوسي الذي كان موقفه واضحا وصريحا، فقد تحدى سابقا نظام بن علي وقام ببيع جريدة “الفجر” الإسلامية الممنوعة آنذاك “عندما كان الإسلاميون نفسهم يخافون حتى قراءتها” حسب تعبيره، ويضيف “لذلك لا أجد مانعا في بيع صحف تعارض الاسلاميين وحكومتهم الآن”.

ولعل ما يثير قلق البعض هو أن صاحب المكتبة، الموجودة في قلب مدينة قابس، يريد نقل كل ما اطلع عليه في بعض الصحف التونسية والعالمية التي تنشر الفكر التقدمي الى كل المارين في الشارع حيث يقوم بنسخ هذه المقالات وعرضها على واجهة المكتبة وهو ما يجلب انتباه الناس.  

من بين الاصدقاء الذين وجدناهم بالمكتبة ذات صباح جميل رغم حالة الاحتقان الذي تعيشها المدينة “غزلان عزرية” وهو يهودي في السبعين من عمره جاء من باريس لمسقط رأسه قابس ليقضي “أسعد أوقاته هنا، مع عبد الله، في هذا الركن الذي يجمع مختلف الديانات والافكار كما انه يحمل ذكريات الطفولة والشباب التي لا تنسى”، والتي لا يمكن ان يجدها في تونس العاصمة ولا في باريس، حسب تعبيره.

غزلان قال “ان مكتبة النفوسي من الاركان الثقافية القليلة في قابس التي تدعو الى نشر الفكر التقدمي ونشر قيم التسامح بين الاديان”، قبل أن يضيف ” لقد كنا نعيش في قابس يهود ومسلمين من دون أي مشاكل ولم يكن موضوع التكفير مطروحا ولا نبذ الآخر المختلف إيديولوجيا”. وتساءل الرجل باسما “لماذا تغير كل شيء نحو الأسوأ ؟”.

النفوسي افتتح مكتبته قبل نحو اربعين عاما. حينها نقل الزبائن من “نشوة المشروب إلى نشوة القراءة”. من حانة كان يملكها يهودي إلى مكتبة يملكها مسلم تجمعهما نفس اللغة والعادات. 

ومنذ افتتاحها لعبت المكتبة، ولا تزال، دورا أساسيا في إيصال الاوراق والكتب الإشكالية أو حتى الممنوعة إلى أيادي القراء. لكن الأحوال تتغير تدريجيا اليوم، والإقبال على القراءة لم يعد كما في السابق. 

“سنة 1975 ، عندما اشتريت المكان من يهودي وقمت بتحويله الى مكتبة، كنت أبيع حوالي 40 نسخة من جريدة “لوموند” الفرنسية منها 10 نسخ يوميا  لبعض الحرفاء الفرنسيين و30 نسخة لبعض القرّاء من قابس لكن اليوم أصبحت أبيع نسخة واحدة فقط”، يقول النفوسي بسخرية ممزوجة بمرارة ثم يضيف بجدية “هل رأيت هذه المفارقة العجيبة؟”.

هذا الأمر حز في نفس صاحب المكتبة الذي يحلم بأن يرى شباب مدينته يقرأون بكل اللغات وخاصة الفرنسية التي يقول عنها إنها لغة العلم مثلها مثل الإنجليزية، مؤكدا “أن من يقرأ الفرنسية هو إنسان تقدمي وأكثر ثقافة لأن من يكتب الفرنسية هو أكثر تفتحا وحرية في الكتابة لأنه غير مقيد بالمقدسات والمحرمات”.

ليس هذا فقط ما يجعل محدثنا يشعر بالغبن فحال المطالعة والكتابة “متدهور” في بلده وليس في قابس فقط  خاصة بعد الثورة، “فحتى معرض تونس الدولي للكتاب الذي كنا ننتظره للاطلاع على الإصدارات الجديدة لم يعد يلبي ما نحتاجه، فالكتب التي تعرض بالية جدا على غرار الكتب الصفراء التي تزيد من حدة التطرف والظلامية”.

و”في زمن طغت فيه ثقافة الموت وعذاب القبر على ثقافة الحياة والفكر التقدمي أصبح الكتاب والمطالعة والنهل من المؤلفات العالمية شيء نادر في تونس والبلدان العربية”، حسب ما يراه النفوسي. 

ويرى صاحب مكتبة التنوير أن الترجمة هي السبيل الوحيد التي تجعل الناس يقرأون الأفكار الجديدة التي تضخ دماء الحياة وتنير درب الفكر وتسد الطريق أمام أي فكر ظلامي.

الحديث مع السيد عبد الله النفوسي يشعر المرء وكأنه في عصر النهضة العربي في القرن التاسع عشر، حيث كان الفكر التقدمي والتنويري أكثر انتشارا، وسيف النقد لا يرحم المقدسات.

أصدقاء النفوسي الذي عاش بين الكتب وعاشت فيه يخشون اليوم من تهديدات يتلقاها من مصادر مجهولة، قد تحول أنجاز أربعين عاما إلى نار ودخان وقد تطاوله شخصيا. 

لكن النفوسي يختم حديثه لـ”مراسلون” قائلا بابتسامة واثقة: “مهما فعلوا، فالمستقبل سيكون للكتاب”.