للمرة الأولى منذ حوالي عشرين عاماً يحتفل أتباع الطريقة السنوسية (إحدى أشهر الطرق الصوفية) بذكرى مولد مؤسسها الإمام محمد بن علي السنوسي (السنوسي الكبير)، وأقيم الاحتفال في ساحة كبيرة على أنقاض الزاوية السنوسية التي هُدمت بيد نظام القذافي في منطقة الجغبوب عام 1984.

الاحتفال الذي يسمى “الحول” يصادف التاسع من شهر صفر في التقويم الهجري من كل سنة، وقد حضره هذا العام حوالي 2000 شخص من الجغبوب وخارجها من مدن طبرق ودرنة والبيضاء وبنغازي وبعض المدن الجنوبية والغربية.

مر بسلام

للمرة الأولى منذ حوالي عشرين عاماً يحتفل أتباع الطريقة السنوسية (إحدى أشهر الطرق الصوفية) بذكرى مولد مؤسسها الإمام محمد بن علي السنوسي (السنوسي الكبير)، وأقيم الاحتفال في ساحة كبيرة على أنقاض الزاوية السنوسية التي هُدمت بيد نظام القذافي في منطقة الجغبوب عام 1984.

الاحتفال الذي يسمى “الحول” يصادف التاسع من شهر صفر في التقويم الهجري من كل سنة، وقد حضره هذا العام حوالي 2000 شخص من الجغبوب وخارجها من مدن طبرق ودرنة والبيضاء وبنغازي وبعض المدن الجنوبية والغربية.

مر بسلام

تجهيزاً للاحتفال قامت الجرافات بتنظيف المكان وإزالة أكوام الحجارة المتبقية من هدم الزاوية، وقام الأهالي ببناء مخيم كبير و دورات مياه من أجل هذه المناسبة، أما الذبائح والمصاريف فقد تبرع بها معتنقو الطريقة السنوسية في الجغبوب وخارجها.

يقول عثمان ابراهيم رئيس المجلس المحلي الجغبوب “لقد شكلنا غرفة أمنية بالمجلس المحلي لتأمين هذا الاحتفال، لأننا لا نملك صلاحيات إقامته أو إلغائه”.

ويعتبر أن قرار المشاركة في الاحتفال أو عدمها هو حرية شخصية وحرية معتقد، بعكس الكثير من شباب المنطقة، ومعتنقي المذهب السلفي على وجه التحديد، الذين قاطعوا الاحتفال وعارضوا إقامته بحجة أنه أمر مبتدع وليس من أصل الدين، بل إن “الشريعة تحرمه” حسب قولهم.

وبالرغم من هذه الاعتراضات إلا أن الاحتفال لم يشهد أي مشادات أو اعتداءات ومر بهدوء وسلام، وذلك يرجع بحسب أحد المحتفلين إلى “طبيعة أهالي المنطقة المسالمين، والمعتنقين في أغلبهم للمذهب الصوفي وللطريقة السنوسية”.

أكبر السنوسيين

بعد جولة في موقع الاحتفال توجه “مراسلون” إلى دار الشيخ محمد نصيب رسلان (77 عاماً)، وهو أحد أكبر معتنقي المذهب السنوسي في ليبيا، والأب الروحي لكل السنوسيين بمنطقة الجغبوب وإمامهم ومرشدهم.

في البيت الذي خصص الشيخ محمد أكثر من نصف مساحته لطلبة العلم وزوار ما تبقى من مقامات (قبور) مشائخ الحركة السنوسية، الذين يفتخر بأنه “خادم لهم ولزوارهم”، تطالعك الصور النادرة لكل أفراد العائلة السنوسية، وأشهر الأئمة الذين درَسوا أو درَّسوا بالزاوية السنوسية.

درس الشيخ نصيب منذ الصبا علوم القرآن والسنة واللغة العربية بالزاوية السنوسية، لينتقل بعدها إلى مدينة البيضاء لمواصلة دراسته في الجامعة الإسلامية التي بناها السنوسيون هناك، وتحصل منها على درجة الليسانس عام 1965. 

وكان الشيخ محمد نصيب ضمن أول دفعة من حاملي الليسانس تتخرج من الجامعة التي تأسست عام 1953، ليحظى مع بقية زملائه بتكريم الملك ادريس السنوسي في ذلك الوقت. عاد بعدها ليكون مديراً للمعهد الديني بالزاوية السنوسية لعدة سنوات، وتحصل على إجازة الماجستير في العلوم الشرعية مع الطلبة الوافدين للزاوية من دول عربية وافريقية مختلفة.

وكان آخر مسؤول يشغل هذا المنصب قبل هدم الزاوية وكل مرافقها بأمر من معمر القذافي في كانون الأول/ ديسمبر من العام 1984.

قرار الهدم 

يتذكر الشيخ محمد نصيب تلك اللحظات وكأنها “حدثت البارحة” بحسب وصفه، “كنا نستعد لأداء صلاة الجمعة في ظهيرة يوم 11 كانون الأول/ ديسمبر 1984، وفي اللحظة التي رُفع فيها الآذان الأول من ظهر الجمعة، سمعنا دوي انفجار مروع، وبمجرد فروغنا من الصلاة هرعنا تجاه الصوت، واذ بجرافات تقوم بهدم الزاوية وسط حلقة من الجنود المدججين بالسلاح، ورجال الأمن الداخلي واللجان الثورية، يقودهم عبدالسلام الزادمة وحسن اشكال (ضابطان قريبان من معمر القذافي متهم هو شخصياً بقتلهما في وقتين مختلفين)”.

ويستطرد الشيخ “بأمر من القذافي ومتابعته قاموا بهدم مسجد ومعهد محمد بن علي السنوسي، والعبث بمكتبته ونهب محتوياتها”.

ويشبه الشيخ نصيب ما حصل بما فعله التتار عند دخولهم بغداد وتخريب مكتبتها، أو ما فعله الإيطاليون بمكتبة السيد المهدي السنوسي عند احتلالهم للكفرة (عام 1931 حيث استخدموا الكتب والمخطوطات النادرة وقوداً لطهي طعامهم).

يؤكد الشيخ أنه فضلاً عن الكتب المطبوعة نُهب من مكتبة الجغبوب ما يزيد عن 1070مخطوط، يبلغ عمر بعضها مئات السنين، في جميع أنواع العلوم، “منها ما اشتراه السنوسي الكبير ومنها ما خطه بنفسه، ومن محتويات المكتبة مجموعة من المصاحف المخطوطة باليد ونسخة من الإنجيل طبعت بباريس سنة 1837” يقول الشيخ .

ويستطرد “الدمار شمل أيضاً قبور العائلة السنوسية، ونُبش قبر الإمام محمد بن علي السنوسي، وسرق جثمانه وجثمان ابنه السيد محمد الشريف، ونبشت جميع قبور العائلة السنوسية البالغ عددها تسعة عشر قبراً”.

مواجهة وسجن

يتذكر الشيخ بألم “قاموا بتفجير القبة الرئيسية وسط مبنى الزاوية بالديناميت بعد أن عجزت الجرافات عن هدمها في محاولة منهم لتنفيذ أوامر حرفية للقذافي بإزالة الزاوية نهائياً من على وجه الأرض”، ويكمل “كان أحد أعضاء اللجان الثورية يهتف (الفاتح الفاتح) النداء الشهير لمؤيدي القذافي من فوق مئذنة الجامع السنوسي، فحاولت إقناعه بأن هذه مئذنة ولا يذكر فيه غير اسم الله، فسبني وشتمني”.

وعند عودته في ذلك اليوم إلى داره اكتشف أن أعضاء اللجان الثورية قاموا بمداهمتها، وحطموا الصور الخاصة بالزاوية وعلمائها وأعلام العائلة السنوسية، إلا أن الشيخ محمد كما يؤكد لم تكن جديدة عليه تلك المواجهات، إذ سبق له أن اعتقل من قبل جهاز الأمن الداخلي وسجن خمس مرات آخرها استمرت سبع سنوات بين عامي 1995 إلى عام 2002، قضاها في سجن بوسليم الشهير بالعاصمة طرابلس.

كل التهم التي كانت توجه إلى الشيخ لم تكن واضحة فمجرد انتمائه للحركة السنوسية كان تهمة تكفي لاعتقاله وسجنه،

القذافي والسنوسية 

منذ وصول معمر القذافي إلى الحكم في ليبيا عام 1969 حاول تشويه وطمس تاريخ الحركة السنوسية، ووصفها بالعمالة والتواطؤ مع المستعمر، وسعى إلى فصل كل ما حدث في تاريخ ليبيا الطويل قبل وصوله للحكم، عن حاضرها المنسوب إليه ولثورته “العالمية” كما يصفها، فأهملت كتب التاريخ في المدراس والجامعات كل تاريخ السنوسية بل وعملت على تشويهه وتلطيخه.

بلغ ذلك حد التشكيك حتى في الاستقلال الذي حصلت عليه ليبيا لأول مرة عام 1951 ووصفه بالمزيف، في محاولة من القذافي لنسب ليبيا الحديثة إليه كبانٍ ومؤسس لهذا البلد، الذي لم تقم فيه دولة بالمعنى الحقيقي قبل العام 1951 على يد ادريس السنوسي أول حاكم فعلي على كامل التراب الليبي بحدوده الحالية.

الإصلاح والسنوسية

بعد ظهور سيف الاسلام القذافي النجل الأكبر للقذافي على الساحة السياسية في ليبيا وإطلاقه لما سماه بمشروع “ليبيا الغد”، الذي كان يدعي التغيير والإصلاح، لم يغفل عن ملف السنوسية الذي كان مغلقاً في عهد أبيه وممنوعاً من التداول.

حيث قام بزيارة الجغبوب قبل الثورة ببضع سنوات، والتقى أهلها وعبر لهم عن صدمته وأسفه الشديدين لما آلت إليه الزاوية السنوسية في الجغبوب وهي “مركز الدعوة السنوسية”، التي تجرأ على القول أنها “كانت تخرج مئات الدعاة سنويا، ممن أخذوا على عاتقهم نشر دعوة الإسلام الحنيف في أدغال أفريقيا، وحملوا راية الجهاد ضد الفرنسيين والإيطاليين”، مخالفاً بذلك التاريخ الذي رسمه أبوه.

وبحسب عدد من الأهالي الذين حضروا اللقاء، فإن سيف الإسلام، أبلغهم، بأنه “صعق” لمنظر الزاوية الكبرى، وما تعرضت إليه محتوياتها من سرقة ونهب كبيرين،وأنه تعهد بإعادة بناء الزاوية السنوسية من جديد، كما تعهد للأهالي بإرجاع رفات مؤسس الحركة، السنوسي الكبير، الشيخ محمد بن علي السنوسي، ورفات ابنه المهدي السنوسي.

إلا أن تلك الوعود بقيت معلقة لعدة سنوات، وأضيفت إلى وعود كثيرة أخرى قطعها سيف الإسلام القذافي على نفسه أمام الشعب الليبي، الذي لم يكن يؤمن بتاتاً أن باستطاعته تنفيذ أمر يعارض سياسة وقناعات أبيه القائد الأوحد.

إعادة البناء

اليوم والسنوسيون يحتفلون بذكرى ميلاد مؤسس طريقتهم، يشيع خبر في وسائل الإعلام الحكومية أن الحكومة الجديدة برئاسة علي زيدان قررت رصد مبلغ خمسة ملايين دينار ليبي لإعادة بناء الزاوية السنوسية.

إلا أن رئيس المجلس المحلي للمنطقة عثمان ابراهيم العوامي أكد لـ “مراسلون” أنه لم يتلقَّ أي تبليغ رسمي يؤكد صحة الخبر، أو المبلغ الذي ذكرته وسائل الإعلام ولا عن طريقة صرفه.

بينما يتعامل الشيخ محمد نصيب بفرح مع هذا الخبر الذي قال عنه “عشت حياتي كلها أنتظر هذه اللحظة”، وطلب منا مرافقته إلى حيث ينتصب نموذج صممه بنفسه في فترة سجنه الأخيرة يمثل تصوراً جديداً لإعادة بناء الزاوية.

ولم يخفِ أمنياته بأن تتم الموافقة على تنفيذ نموذجه الذي عكف على تصميمه طيلة سبع سنوات قضاها في سجن بوسليم، يقول عنها أنه لم يشفع له خلالها سوى كبر سنه و”بعض الضباط والجنود الذين يؤمنون بالطريقة السنوسية المنتشرة في كل أنحاء ليبيا”، والذين كانوا يتعاملون معه باحترام.