“خلال فترة الاحتجاجات الشعبية العارمة التي تلت حادثة حرق محمد البوعزيزي لنفسه، كنت التقي بصديقيّ المقربين “باسم ” و”فهمي”. الأول كان ذا ميول سلفية والثاني كان شيوعيا، ورغم ذلك كنا نتبادل الأخبار ونتناول مستجدات الأوضاع بكل حذر، في ركن من أركان المقهى، و كنا حتى بعد الرجوع إلى المنزل نتبادل الإرساليات القصيرة بطريقة مشفرة احتياطا من كل أشكال الرقابة.

“خلال فترة الاحتجاجات الشعبية العارمة التي تلت حادثة حرق محمد البوعزيزي لنفسه، كنت التقي بصديقيّ المقربين “باسم ” و”فهمي”. الأول كان ذا ميول سلفية والثاني كان شيوعيا، ورغم ذلك كنا نتبادل الأخبار ونتناول مستجدات الأوضاع بكل حذر، في ركن من أركان المقهى، و كنا حتى بعد الرجوع إلى المنزل نتبادل الإرساليات القصيرة بطريقة مشفرة احتياطا من كل أشكال الرقابة.

 لكن أول مشاركة فعلية لي، كانت انضمامي لأول حراك اجتماعي تمثل في الوقفة الاحتجاجية المساندة لسيدي بوزيد أمام المقر الجهوي للاتحاد العام التونسي للشغل بمدنين يوم 26 كانون الثاني/ ديسمبر 2010.

في اليوم التالي، شاركت في المظاهرة الحاشدة التي قادها المحامون انطلاقا من المحكمة الابتدائية بمدنين. كانت المخاوف بشأن قمع المظاهرة السلمية كبيرة، وكان من المرتقب أن يتم تعنيف المحامين ومنعهم من الخروج من المحكمة، فمقر إقليم شرطة ولاية مدنين كان ملاصقا لمبنى المحكمة، لكن ورغم محاولة بعض أفراد البوليس غلق الباب الخارجي للمحكمة إلا أن المسيرة خرجت متكونة من المحامين فقط في بدايتها.

في اول الأمر كانت الشعارات تهم المحامين من قبيل “المحامي والفلاح صف واحد في الكفاح” و”يا مواطن يا ضحية إيجا ( تعال ) دافع على القضية”. وانضمت أعداد كبيرة من المواطنين واشتدت حدة الشعارات المرفوعة لتصدح بصوت عالي منادية “لا لا للطرابلسية، إلي نهبوا الميزانية”. شعارات قوية تهاجم مباشرة أعلى هرم السلطة وعائلة بن علي ولأصهاره. 

لقد عرفت يومها مدى شجاعة المحامين، استبسالهم في الدفاع عن حقنا الشرعي في التظاهر. 

استقر الجو بمدنين بعدها، لكنني بقيت على لطلاع متواصل ومتابعة يومية للمستجدات عبر قنوات الجزيرة وفرانس 24 خاصة وبعض الفيديوهات إلي تنشرها صفحات ساهمت بدور كبير في الثورة مثل “شعب تونس يحرق في روحوا يا سيادة الرئيس”، و”ابتسم كثيرا فأنت لست من سيدي بوزيد”، وغيرها من قنوات التواصل الاجتماعي.

 

الثورة والدراسة

عدت إلى تونس العاصمة يوم 2 كانون الثاني/ جانفي 2011 لاجتياز امتحانات السداسي الأول، لكن في حقيقة الأمر كنت عاجزا عن كتابة أي شيء، عن التركيز، وعن الجلوس لدقائق طويلة أمام ورقة الامتحان، فامتحان الثورة في الشوارع لن ينتظر الخانعين والمتخلفين عن نداء الجماهير المنتفضة. قمت بخط اسمي على ورقة الامتحان البيضاء وغادرت القاعة. 

قمت بالالتحاق في اليوم التالي بالوقفة الاحتجاجية بالمعهد التحضيري للدراسات الهندسية بتونس التي تم فيها كتابة “تونس حرة” بأجساد التلاميذ، الصورة التي انتشرت وجابت العالم.

وبحكم تفرغي في تلك الفترة كنت دائم التردد على بطحاء محمد علي (مقر الاتحاد العام التونسي للشغل) بصفة تكاد تكون يومية، بعد أن كنت أقتصر على مشاهدة ما يجري  في هذه الساحة على شاشات الفضائيات فترة تواجدي بمدينة مدنين.  كانت بطحاء محمد علي، معقل النضال، توافد عليها المئات من الطلبة والنقابيين والمناضلين لمساندة سيدي بوزيد والقصرين وتالة، للمطالبة بفك الحصار الذي تقوم به قوات البوليس الدموي منذ أيام. 

أصوات الرصاص

يوم 13 كانون الثاني/جانفي 2011 كان يوما تاريخيا بجهة حمام الانف، يوم كانت بدايته هادئة لكنها تنبئ بعاصفة في الأفق. ففي حدود الساعة الرابعة مساء، بدأت الحركة في المدينة تأخذ نسقا تصاعديا: حالة استنفار غير مسبوقة خوفا من انفلات أمني كبير ومواجهات عنيفة. 

اضطر أصحاب المقاهي والمحلات إلى إغلاق متاجرهم بصفة مبكرة وعاد أغلب المواطنين إلى منازلهم، لكنني قررت الانضمام إلى تجمهر حاشد أمام مقر المعتمدية، شعاراته تطالب بإسقاط نظام بن علي ومحاكمة اصهاره الفاسدين. 

ماهي إلا دقائق حتى بدأ سماع أصوات الرصاص قادمة من بعيد وبدأت تتوضح في الأفق غيوم صغيرة للقنابل الغازية وغيوم سوداء كثيفة لدخان العجلات المحروقة. 

في تلك اللحظة رأيت مشهدا جعلني أتيقن من نهاية بن علي: مشهد رجل طاعن في السن صاحب مستودع لتخزين الزيوت بجانب المعتمدية، أغلق المستودع وأخرج “صرافة” قصيرة تسلقها وبالكاد وصلت أظافره لتحاول نزع صورة لبن علي ملتصقة بالباب، خوفا على مستودعه من التهشيم والاحتراق.

تأكدت وقتها بأن البلد دخل مرحلة اللاعودة، وأصبح كل ما له علاقة ببن علي هو حطب لنار الثورة. وقتها أشرت بإصبعي للرجل المسن وقلت للواقفين بجانبي “بن علي انتهى”.

هستريا ثورية 

مع بداية غروب الشمس وحلول الظلام بدأ تصاعد أعمدة الدخان من الجهة الأخرى لسكة القطار حيث يوجد مركز الشرطة، فتوجهت (رفقة صديقين) إلى الطريق المؤدي إلى المركز، ووجدت مجموعة من الشباب الثائر في تجمع عفوي بصدد الانطلاق نحو المركز للتعبير عن غضب وحقد بلغا المنتهى.

وبدأت المواجهات من طرف الشرطة دون سابق إنذار بإطلاق قنابل الغاز بطريقة عشوائية وتوجيهها نحو المحتجين، ومن ثم إطلاق الرصاص الحي، فقمنا بالرد برمي الحجارة، رغم بعض الخوف من الإصابة بالرصاص أو الموت.

سيطرت علينا لحظة من الهستيريا الثورية: لن يكلفنا الصدام أكثر مما كلفنا القمع! وبين كر وفر، سمعنا صراخا في بيت مقابل للمركز، صراخ أفراد عائلة شهيد حمام الأنف محمد ناصر الطالبي الذي اخترقت رأسه رصاصة غادرة قادمة من ناحية المركز وهو وسط بيته، فما كان منا إلا التقدم نحو المركز بسرعة في هبّة واحدة رغم انسحاب الكثيرين خوفا على حياتهم.

نهاية النظام

بدأ أعوان الأمن بالانسحاب ليتركوا المركز لقمة للنيران. بعدها عدت إلى البيت مختنقا بالغاز، شاهدت خطاب بن علي الأخير وتأكدت من نهايته، إلا أنني صدمت، بل حتى أصبت بحالة من الاحتقان وفقدان الأعصاب، وأنا أتصفح ردة فعل الناس على “الفيسبوك”، ثم في شوارع الحبيب بورقيبة: سيارات مرتزقة الحزب الحاكم مهللة مطبلة فرحة بخطاب بن علي. أحسست لحظتها أن الثورة تجهض على يد أغلبية صامتة وخاضعة من الشعب.

يوم 14 كانون الثاني/ جانفي لم أتمكن من التوجه إلى وسط العاصمة. قضيت اليوم وسط مدينة حمام الأنف في تجمهر غاضب قرب المركز أمام بيت الشهيد محمد ناصر الطالبي، ثم أمام التلفاز أتابع مستجدات الوضع في تونس وأخبار مظاهرة شارع الحبيب بورڨيبة، إلى أن جاء خبر فرار بن علي وكانت لحظة  انتصار يشوبها ألم كبير: شباب أعزل قتل برصاص الغدر وأخبار عن ميليشيات مسلحة ستقضي على الأخضر واليابس في هذه البلاد .

محاولة قتل

يوم 25 شباط/ فيفري 2011 يبقى أحد أهم تاريخ في حياتي: بعد المشاركة في اعتصام القصبة الحاشد توجهت إلى شارع الحبيب بورڨيبة وبالتحديد أمام الداخلية أين قام الأمن باستفزاز المحتجين وضربهم بالحجارة. كان رد فعل المواطنين قويا. 

وتحول هذا اليوم إلى واحدة من أشد أحداث العنف، وكانت أول محاولة لاقتحام وزارة الداخلية في تاريخ تونس. مشاركتي كانت في الصفوف الأمامية طيلة الليلة رغم إطلاق الرصاص الحي، إلى أن تم القبض علي في فخ محكم في حدود الساعة الحادية عشر ليلا قرب تقاطع نهج باريس وشارع الحبيب بورڨيبة. 

جرت محاولة قتلي (وليس اعتداء فحسب) من خلال دعسي وضربي من قبل أكثر من 20 من وحدات التدخل لمدة تزيد عن الدقيقة دون انقطاع (مرت علي كأنها عام)، حتى صرت في حالة شبه غياب عن الوعي. ومن ألطاف الله أن الشرطي المأمور بإيصالي إلى وزارة الداخلية ورغم مشاركته في الاعتداء علي، تركني أهرب قائلا “أهرب، فلو ادخلوك الدهليز، فلن تخرج إلا ميتا”.  

تحصنت في مبنى “الكوليزي” وقام بعض أهل الخير بإيصالي إلى قسم الطوارئ بشمفى شارل نيكول حيث تم إسعافي وتقطيب عديد الجروح في رأسي، وتضميد يدي وتجبير الأخرى، واكتشاف كسر في ثلاثة أضلع كاد يودي بثقب الرئة اليسرى. قضيت بعدها قرابة الشهر دون القدرة على النوم مستلقيا، وبعد ذلك شهرين دون القدرة على التحرك طبيعيا بسبب الآلام الشديدة في الأضلع.

بعدها لم أنقطع عن التظاهر والاحتجاج، بل بالعكس، اكتسبت مناعة ضد أي شكل من أشكال الخوف.

تظاهرت في عديد المناسبات ضد حكومة السبسي التي جاءت على حساب صحتنا وتعبنا وصراخنا في القصبة، بالرغم من أن صحتي لازالت متعكرة نوعا ما، “الثورة لا تنتظر”  أقول لألملم أوجاعي وأواصل ما بدأته.

صدمة الانتخابات 

انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 كانت بمثابة الصدمة القاتلة بالنسبة لي. صناديق اقتراع يحكمها المال المشبوه و يقودها الجهل المقدس: الشعب لم يختر من ثاروا جنبا إلى جنب معه. 

سخرت بعدها كل وقتي ومجهودي للمشاركة في كل التحركات الميدانية من الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات التي تتبنى مطالب مشروعة على رأسها مطالب “الثورة” : الحرية، الكرامة، التشغيل والتنمية الجهوية. وبالتوازي مع العمل الميداني، أوليت اهتمام كبير للعمل الافتراضي عبر نقل المستجدات وتصوير التحركات وتسجيل بعض الأحداث. وبحكم كوني مشارك في الحدث وناقل له في نفس الوقت.

 كانت عديد الصور والفيديوهات تجد رواجا كبيرا كونها قريبة جدا من الحدث بل حتى فيه جانب كبير من المخاطرة. وبعضها وقع بثها في بعض الشاشات وحتى الاستشهاد بها في جلسة مساءلة وزير الداخلية في المجلس التأسيسي حول أحداث 9 نيسان/ أفريل. وبالرغم من تلقي بعض العروض والمقترحات للانضمام لمنظمات وجمعيات مختصة في صحافة المواطنة إلا أنني خيرت الإبقاء على استقلاليتي وحريتي .

يصيبني أحيانا نوع من التعب والاستنزاف، لكن تراودني دائما قولة الثائر الأبدي ارنستو غيفارا ” أنا لا استطيع العيش ودماء الثورة تتجمد داخلي”، فيوم 9 نيسان/ افريل 2012 كان يوما كفيلا بإشعال لهيب الثورة من جديد. 

عيد الشهداء

مظاهرة الاحتفال بعيد الشهداء، ضمت فسيفساء من المتظاهرين من مختلف المشارب والأعمار والجهات والانتماءات والمتحدين على نفس المطالب. كما كان الحال أيام الثورة: مظاهرة يوم 9 نيسان/ أفريل ضمت مواطنين عاديين، ومتسيسين، ومتحزبين، ونقابيين، ضمت عمال وطلبة، فقراء وميسورين، ضمت نساء ورجال، كبار وصغار.

حتى جرحى الثورة شاركوا في هذه المظاهرة، كلهم جمعتهم نفس الشعارات التي رُفعت أيام الثورة ونفس المطالب: شغل، حرية، كرامة، تنمية جهوية. كل هذه العوامل ساهمت في رفع المعنويات لكل الثائرين الرافضين للتعسف والظلم والفساد مهما كان مأتاهم.

ومن أهم الأسباب التي تدفعني للانبهار بذاك اليوم والتأكيد على الشحنة المعنوية التي ضخها في صفوف الثائرين، هي المواجهات العنيفة التي اندلعت بشارع جون جوريس بالعاصمة بين المحتجين المتسلحين بالحجارة وقوات الأمن المدججة بالغاز والعصي والمدعمة بتعزيزات من الميليشيات المرتزقة من المنحرفين المأجورين من طرف حزب حركة النهضة الحاكم. وفي ذلك اليوم حررنا شارع الحبيب بورقيبة من براثن القبضة البوليسية .

مواصلة الثورة 

في المقابل، يوم 23 أكتوبر 2012 كان يوما يمكن وصفه بالأسود والمأساوي، لان الشعب لم يضع حدا لنهاية ما سمي بشرعية الانتخابات. في ذاك اليوم انتهى الوقت الذي حدده المجلس التأسيسي لنفسه، لإنجاز الدستور والدعوة لانتخابات. 

كانت الحماسة والاستعداد للنضال والاحتجاج يأخذان منحى تصاعدي  في نفسية الثائرين خاصة بعد “ملحمة” 9 أفريل 2012، بعدها كان تجاوب عامة الناس لمواصلة الضغط فاترا، فعامة المواطنين يظلون الحلقة السلبية والمؤثرة في نفس الوقت.

يجب أن نقنع أنفسنا بأن التراخي والنفور يعنيان التخاذل والاستسلام. والثورة هي نضال متواصل لا يتوقف وهنا لا يمكن أن أختم بأفضل من مقولة شي جيفارا: “الثورة كالدراجة، إذا توقفت سقطت”.