“عندما تطالب النّهضة برفع ما أسمته بالمظلمة عن مجموعة إجرامية تمارس الإغتيال السياسي، فهذه فضيحة وضوء أخضر رسمي لممارسة الإعتداء”، هذا الاتهام المباشر لحركة النهضة هو آخر ما قاله السياسي اليساري شكري بلعيد أحد أبرز القيادات السياسية والحقوقية التونسية في الليلة التي سبقت اغتياله معبّرا عن رفضه للعنف السياسي، ولم يكن يعلم أنه سيكون هو نفسه هدفا لعمليّة اغتيال.

“عندما تطالب النّهضة برفع ما أسمته بالمظلمة عن مجموعة إجرامية تمارس الإغتيال السياسي، فهذه فضيحة وضوء أخضر رسمي لممارسة الإعتداء”، هذا الاتهام المباشر لحركة النهضة هو آخر ما قاله السياسي اليساري شكري بلعيد أحد أبرز القيادات السياسية والحقوقية التونسية في الليلة التي سبقت اغتياله معبّرا عن رفضه للعنف السياسي، ولم يكن يعلم أنه سيكون هو نفسه هدفا لعمليّة اغتيال.

عُرف بلعيد بوضوح مواقفه وبخطابه السياسي الصريح المباشر والحادّ احيانا، كما عرف عنه “تحديه” للسلفيين و لحزب النهضة وأبرز قيادييه ومنهم خاصة وزير الداخلية عليّ العريض ورئيس الحزب راشد الغنوشي، الأمر الذي أزعج الأحزاب والتيارات ذات المرجعية الإسلامية وخاصة حزب النهضة وأنصاره، وهذا ما دفع عائلته لتوجيه أصابع الإتهام للحركة الإسلاميّة.

المعارض التونسي الذي هزّ اغتياله الشارع التونسي صبيحة 6 شباط/ فيفري الجاري اشتهر بمواقف حادّة تخرج من ثغر باسم يخفيه شاربه الكثيف الذي طالما كان موضوع تندّر للمبحرين على شبكات التواصل الاجتماعي، حتى من مناصريه.

ولد شكري في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني، سنة 1964، في منطقة جبل جلود جنوبي العاصمة التونسية، ودرس الحقوق في العراق. وانطلقت مسيرته السياسية في سن 16 تقريبا بعد دخوله الحركة التلمذية بمدينة الوردية (الضاحية الجنوبية للعاصمة) خلال حقبة الرئيس الحبيب بورقيبة ثم انضم الى تحركات الاتحاد العام لطلبة تونس. وتوضّحت نزعته النضاليّة و الزعاماتيّة  بقدر أكبر من خلال الحركة الطلابية حيث كان الناطق الرسمي باسم حركة الوطنيين الديمقراطيين بالجامعة. 

ومع التحاقه بسلك المحاماة في تونس في العام 2004 بدأ شكري يعرف بدفاعه عن الفقراء، وعن المتهمين في قضايا الرأي خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، متحديا آلة القمع الموجّهة له، ولم يكن يميّز بين سلفي ويساري وقومي، فقد كان يدافع عن الجميع.

وكان شكري قد تعرض للاعتقال في عهدي بورقيبة وبن علي، وكان من بين المحامين القلائل الذين دافعوا عن السلفيين ضحايا قانون الإرهاب، وعن شباب انتفاضة الحوض المنجمي (2008)، كما كان له دور فاعل ضمن قطاع المحامين في مساندة الثورة التونسية التي انطلقت من سيدي بوزيد.

تهديدات بالقتل 

بعد قيام الثورة التونسية انضم بلعيد إلى “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي” كما شغل منصب الأمين العام للتيار الوطني الديمقراطي المعارض والذي أنشئ بعد الثورة ويعتبر من أبرز قياديي الجبهة الشعبية التي تضم شخصيات مستقلة و12 حزباً من الأحزاب القومية واليسارية والعلمانية.

اشتهر بلعيد بمداخلاته التلفزيونية الحادة ونقده اللاذع لحركة النهضة الإسلامية وشجبه المستمر لأعمال العنف التي تستهدف معارضي النهضة، كما اشتهر بمواقفه المساندة للقضايا العربية وفي مقدمتها القضيّة الفلسطينيّة.

وتعرّض السياسي اليساري لعنف لفظي عدة مرات كما تم تهديده بالقتل واستباحة دمه من قبل احد أئمة المساجد، وحمّله وزير الداخلية شخصيا مسؤولية التحريض على اندلاع بعض الإضرابات التي شُنت في كثير من القطاعات المهنية وبعض المحافظات ومنها خاصة إضراب محافظة سليانة، شمال غرب البلاد في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي.

وفي حدود الساعة الثامنة والربع صباح يوم 6 شباط/ فيفري سمع صوت أربع طلقات ناريّة، انطلقت من مسدّس شاب في مقتبل العمر (حسب شهود عيان) لتستقر في رأس وصدر شكري بلعيد وتحرم تونس أحد أبنائها الذين استماتوا في الدفاع عن مكاسبها.

كان شكري بلعيد متوجّها لعمله كالعادة بعد أن ودع بنتيه نيروز وندى وزوجته المحامية بسمة الخلفاوي وخرج من منزله بمنطقة المنزه السادس بتونس الكبرى، ولكنّه كان الوداع  الأخير فقد كانت اليد الغادرة في انتظاره.

الاغتيال…سابقة 

لم تعرف تونس المستقلة منذ عام  1956 غير محاولة اغتيال سياسي واحدة تمثلت في استهداف غريم الرئيس بورقيبة، صالح بن يوسف، الرجل الثاني في الحزب الدستوري، الديوان السياسي، في سويسرا سنة 1961.

وفي عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي تعرّض صحفي تونس كان يعمل في النسخة العربية من جريدة “لومند ديبلوماتيك” الفرنسية لمحاولة اغتيال باءت بالفشل.
وتعدّ عملية اغتيال شكري بلعيد، أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والمنسق العام للجبهة الشعبية، التي تضم تحالفا واسعا بين الأطراف الماركسية والمستقلة وبعض الأطراف القومية أول عملية من هذا النوع تحدث على أرض تونس وكانت بعد ثورة ضد القمع.

جنازة وطنيّة

“نم يا رفيقي نم يا صديقي نم يا حبيبي فلا نامت أعين الجبناء” بهذا الكلمات قام زعيم حزب العمّال حمة الهمّامي بتأبين رفيق درب شاركه مقاومة الاستبداد منذ الثمانينات، وسط حزن سياسيّين ومبعوثين دبلوماسيّين أبوا إلّا أن يشاركوا في توديع مناضل يصعب أن تنجب تونس مثيلا له.

جنازة النّاشط السياسي اليساري شكري بلعيد شارك فيها ما يقارب المليون و400 ألف تونسي في مناطق متفرّقة من البلاد، فحتى البعد الجغرافي عن العاصمة لم يمنع المتعاطفين معه داخل البلاد من إقامة جنازة رمزيّة له وتشييعها، وحتى النساء شاركن فيها متحدّيات العرف الذي لا يبيح لهن مرافقة الميت للمقبرة وحضور مراسم الدفن.  

نعش بلعيد حُمل على عربة عسكرية وسط حشود هائلة رافقته سيرا على الأقدام في رحلة دامت قرابة ثلاثة ساعات (رغم ان المسافة لا تتجاوز 3 كيلومترات) لم يتوقف خلالها المشاركون في الجنازة عن الهتاف بإسم بلعيد وتوجيه أصابع الإتهام لحركة النهضة بالضلوع في عمليّة إغتياله، إلى حين دفنه في روضة الزّعماء أو ما يسمى بمربع الشهداء بجانب الزعماء والشهداء بمقبرة الجلاز بالعاصمة تونس.  

أُغتيل شكري بلعيد ودُفن تحت الثّرى ولكنّه وحّد صفوف فرقاء سياسيين وجمع شمل معارضين اقتنعوا بضرورة الإتّحاد وترك الخلافات السياسية جانبا لمواجهة “ماكينة اغتيال” انطلقت باستهداف رفيقهم بلعيد ولا أحد يدري من هو التالي.