منذ بداية الثورة تكونت في مخيلاتنا تصورات رومانسية حالمة عن الثورة كمشروع يسير بنا للأمام، وعن الثوار ككتلة متضامنة ناضجة تواجه السلطة السياسية المنحطة بصدور عارية. كان الوضع سهلا والجبهات واضحة: ثوار أبطال رفيعو الأخلاق يواجهون سلطة مستبدة تحاول التخلص منهم بالاعتقال والإصابة والقتل وتستخدم في ذلك أجهزتها الأمنية وأشقياء مأجورين عرفوا بالبلطجية. وعند كل محطة من محطات الثورة كان من يسقط من الثوار شهيدا أو مصابا على أيدي السلطة الغادرة يصبح رمزا نحتفي به ونرفع صوره.

منذ بداية الثورة تكونت في مخيلاتنا تصورات رومانسية حالمة عن الثورة كمشروع يسير بنا للأمام، وعن الثوار ككتلة متضامنة ناضجة تواجه السلطة السياسية المنحطة بصدور عارية. كان الوضع سهلا والجبهات واضحة: ثوار أبطال رفيعو الأخلاق يواجهون سلطة مستبدة تحاول التخلص منهم بالاعتقال والإصابة والقتل وتستخدم في ذلك أجهزتها الأمنية وأشقياء مأجورين عرفوا بالبلطجية. وعند كل محطة من محطات الثورة كان من يسقط من الثوار شهيدا أو مصابا على أيدي السلطة الغادرة يصبح رمزا نحتفي به ونرفع صوره.

لكن الثورة التي هي مشروع تحرر بالأساس لم تواجه السلطة السياسية فقط بل هي أيضا، وهو ما فاجأنا، واجهت المجتمع أيضا أو بالأحرى واجهت طبقات العفن المتراكمة فيه وانفجرت بعد الثورة. العفن الذي تبدى في ارتفاع وتيرة العنف والتحريض الطائفي والعنف الجنسي ضد المرأة في الأماكن العامة بعد الثورة على خلاف عالم ميدان التحرير المثالي خلال الـ18 يوما الأولى حيث كان المكان خاليا من التمييز الجنسي والديني أو هكذا كان يبدو.

خلال الـ18 يوما كان هناك بانر(لافتة) كبير مكتوب عليه “لا دينية ولا طائفية… مصر دولة مدنية” كان صاحبها رجلا أعرفه، طبعه وعلقه في عدة أماكن بالميدان ولم يعترض عليه أحد. يوم تنحي مبارك حدثت بسبب هذا البانر نفسه عدة خناقات إحداها كاد أن يُسقِط مسرح “أدباء وفنانون من أجل التغيير” بعد أن اعترض عليه أحد المتفرجين وحرض الباقين فأخذوا يهزون المسرح بعنف إلى أن تمت إزالته.

ورغم ازدياد مظاهر التمييز الديني والجنسي، فقد صار بعض المسيحيين وبعض النساء أيقونات ورموز للثورة وخاصة مينا دانيال الذي سقط برصاص الجيش في ماسبيرو، وكان له نشاط سياسي معارض أثناء الثورة وقبلها، وسميرة ابراهيم التي فضحت وتحدت هتك العرض المسمى بكشوف العذرية على أيدي العسكر. لكن مينا وسميرة كانا ضحايا العسكر أي السلطة السياسية وبالتالي سهل علينا أن نجعل منهم رموزا نهتف باسمهم ونرسم وجوههم على الجدران.

أما الضحايا الذين طالهم العنف المجتمعي الطائفي أو الجنسي، وهم في حياتهم العادية وليس في ميدان التحرير، لم يكتسبوا هذا التعاطف وتلك الهالة القدسية. من يتذكر منا أيمن ديمتري الآن. ذلك المواطن القبطي القنائي الذي حرق السلفيون منزلا يمتلكه ويؤجره وقطعوا جزء من أذنه. من يتذكر ضحايا حوادث العنف الجنسي العديدة التي أصبحت تنشر في الصحف بغزارة منذ قيام الثورة.

وفي الميدان ظهر التحرش بالنساء على استحياء منذ فترة لا تبدو قصيرة حتى تصاعد ووصل إلى الاغتصاب الجماعي والاعتداء بآلات حادة يوم 25 يناير 2013. لكن أين تقع الناجيات من العنف الجنسي في الميدان في مشهد الثورة وذهنها الجمعي؟ من السهل أن يصبح شهداء ومصابو المواجهات مع السلطة مثل أحمد حرارة وسميرة ومينا أيقونات ورموز. لكن هل تصبح الناجيات من الاغتصاب في التحرير مثل ياسمين البرماوي وهانيا مهيب كذلك؟ مصيرهن التقليدي أن تصبحن ضحايا في أحسن الاحوال أو مدانات في أسوأها: حيث تساءل البعض حتى ممن ساهموا في إنقاذ ياسمين عما كانت تفعل هناك وماذا فعلت لهم (أي للمعتدين) وما إذا كانت آنسة أم متزوجة (راجع شهادة ياسمين التي نشرها الكاتب محمد خير مجهلة في البداية على صفحته بفيس بوك). مثلما قيل عن أيمن ديمتري إنه رجل فاسد يؤجر منزلا يمتلكه للدعارة وهو رب أسرة يعول زوجته وأولاده وأمه في منزل عادي بمدينة قنا حسبما رأيت بنفسي (ها أنا أيضا أحاول إثبات حسن سلوكه!!).

يصر البعض على أن جرائم الاعتداء الجنسي على الفتيات في محيط ميدان التحرير مصنوعة بالكامل من مأجوري السلطة الإخوانية. صحيح أن التيار الاسلامي بشكل عام مسئول عن لوم المرأة وتشجيع المعتدين تحت شعار “أختاه لا تكوني سببا في التحرش”، وصحيح أن الإخوان المسلمين تورطوا منذ خلع مبارك في عدد من الجرائم وتحوط حولهم شبهات كثيرة بالتآمر بالضلوع في عدد من المجازر. لكن بالنسبة لاعتداءات الميدان علينا أن نحذر من تبني الرواية القائلة بأن المعتدين جميعا هم مجموعات منظمة مأجورة. لا أظن أنها مأجورة (أو على الأقل ليست كلها مأجورة) لكنها ذات طبيعة منظمة. فهناك أمور في شهادات الناجيات والمنقذين تدل على التنظيم وأخرى تدل على التلقائية. إن المعتدين على الأغلب مزيج من مأجورين ومجموعات تأتي خصيصا للميدان باعتباره مكان خال من السلطة الأمنية للاعتداء على السيدات كما العصابات التي تذهب لمكة للسرقة أثناء الحج وبعض من مهمشي المدينة الذين يكرهون النظام وقمعه لهم ووجدوا في التحرير ضالتهم ليردوا على عنف الدولة وقمعها المتراكم لهم ويسقط منهم الكثيرون في المعارك منذ بداية الثورة وخاصة في المعارك في محيط وزارة الداخلية. وهؤلاء جميعا من مستوى طبقي ومعرفي بائس ونظرتهم لجسد المرأة أصلا قائمة على الاستباحة والاحتقار بل وقد تستفزهم الحالة الحرة الجريئة التي تعبر عنها النساء في الميدان.

لا يمكن الوقوف على هوية المعتدين وتصنيفهم بدقة إلا بجهد بحثي وتوثيقي استقصائي لا يبدو متوفرا الآن. لكن بغض النظر عن هذا فإن التعرض للاعتداء الجنسي في التحرير يضع الثورة أمام معضلة. فهؤلاء النساء اللاتي دفعن ثمنا باهظا لمشاركتهن في الثورة لا يقل عن مصابي وشهداء الثورة وضعهم معقد ومربك. فالمعتدي غير محدد بوضوح ممثلا في الداخلية أو العسكر أو حتى بلطجية النظام المأجورين وإنما يمثل أيضا أكثر ما في مجتمع بؤسا ووحشية.

إذن، الثورة التي قامت ضد انحطاط السلطة السياسية تواجه كذلك أحط ما في المجتمع. ومن هنا تأتي أهمية ما فعلته ياسمين وهانيا عندما كشفن عما حدث لهن في التحرير على شاشة التلفزيون والسير كتفا بكتف مع أبطال الثورة في المظاهرات. فهن يجبروننا على الاعتراف بهن ضمن أبطال هذه الثورة وأيقوناتها بالضبط كمينا وحرارة والشيخ عماد وسميرة وست البنات المجهولة التي عراها العسكر في الشارع.

الثورة لا تعني أن يصبغ المؤمنون بها أوهاما رومانسية على المجتمع الذي يحاولون تحريره وبل حتى على الثوار أنفسهم باعتبارهم ملائكة بأجنحة كما في الجرافيتي المرسوم على الجدران في محمد محمود. لكنها تعني مواجهة العفن المتراكم في المجتمع بالضبط كمواجهة السلطة السياسية.

قد يصدمنا هذا الأمر فنكره المجتمع ونطالب الدولة بقهره وتأديبه وإجباره على التحضر بيد حديدية أي أن نفقد إيماننا بالثورة وبمشروع تحرر الناس بأكمله. لكنه قد يدفعنا أيضا إلى التمسك بثورتنا وإسقاط أوهامنا الرومانسية عنها، ذلك بمساعدة نساء جريئات مثل هانيا وياسمين وإصرارهن على استكمال المعركة ضد عفن السلطة والمجتمع معا.