الوصول إلى مدرسة “طيبة الاسم” (6 كم جنوب مدينة القبة) لم يكن بالأمر اليسير، إذ استلزم ذلك أن أتوقف أكثر من مرة للسؤال عن القرية التي تحمل الاسم نفسه، حتى أرشدني صاحب دكان متواضع إلى طريق إسفلتي متعرج، سلكته بحذر حتى لمحت مجموعة من الحاويات على الجانب الأيمن للطريق، فأدركت على الفور أنها المدرسة المنشودة.
ما أن ترجلت من سيارتي حتى قابلتني ابتسامة بشوشة عرَّف صاحبها عن نفسه بأنه عقيلة صالح مدير مدرسة طيبة الاسم، تناهت لمسامعي أصوات التلاميذ المحشورين في حاويات حديدية، بدا أنها فصول دراسية، فيما رحب بي الرجل بحفاوة أهل البادية ودعاني لمكتبه.
الوصول إلى مدرسة “طيبة الاسم” (6 كم جنوب مدينة القبة) لم يكن بالأمر اليسير، إذ استلزم ذلك أن أتوقف أكثر من مرة للسؤال عن القرية التي تحمل الاسم نفسه، حتى أرشدني صاحب دكان متواضع إلى طريق إسفلتي متعرج، سلكته بحذر حتى لمحت مجموعة من الحاويات على الجانب الأيمن للطريق، فأدركت على الفور أنها المدرسة المنشودة.
ما أن ترجلت من سيارتي حتى قابلتني ابتسامة بشوشة عرَّف صاحبها عن نفسه بأنه عقيلة صالح مدير مدرسة طيبة الاسم، تناهت لمسامعي أصوات التلاميذ المحشورين في حاويات حديدية، بدا أنها فصول دراسية، فيما رحب بي الرجل بحفاوة أهل البادية ودعاني لمكتبه.
طلبات بسيطة
لم يكن مكتب المدير إلا غرفة ضيقة مسقوفة بالصفيح، بها دولاب حديدي رُصت به ملفات المعلمين والتلاميذ وأرشيف المدرسة، وحتى أدوات الإسعاف الأولي، وفوق دولاب خشبي قديم انتصب كأس رياضي صغير، قال عنه المدير إن فريق معلمي مدرسته – القابعة خارج إطار الزمن – ربحه في مسابقة رياضية على مستوى مدارس شعبية (بلدية) درنة الواقعة في الشرق الليبي.
وصف عقيلة مستوى التعليم في مدرسته بـ”المميز” مقارنة بغيرها من المدارس، إلا أنه اشتكى من حالتها السيئة قائلاً “لا توجد دورات مياه ولا ساحة مدرسية ولا ملعب، والحاويات متهالكة والبرد قارص فدرجة الحرارة قد تصل إلى 5 مئوية في الشتاء”.
ثم لخص الوضع ببساطة “كل ما هنالك هو تلاميذ يجلسون على مقاعد”، وبرغم أنه خاطب مكتب التعليم بمدينة القبة والمجلس المحلي للمدينة، مقدماً طلبات بسيطة لا تعدو توفير بضعة فصول حديثة ومعمل ودورة مياه، إلا أنه “لا حياة لمن تنادي” بحسب تعبيره.
صيانة متواضعة
بالقرب من مكتب المدير تقاسمت المعلمات غرفة صغيرة، اختلطت فيها أواني الإفطار مع نصف كيس من الإسمنت وفرشاة طلاء، هما كل ما تبقى من مشروع صيانة متواضع علمت أنه يتم بمجهود ذاتي.
اشتكت إحدى المعلمات من دخول مياه الأمطار عبر الأسقف، وتحدثت عن خطر ما يُلحقه البرد الشديد بالتلاميذ الصغار، فيما استغربت زميلتها وجود هكذا مدرسة في دولة مثل ليبيا قائلة بنبرة حادة “بعد الثورة لم يتغير شئ مازالت الأمور على حالها”.
دورة المياه سُقفت هي الأخرى بالصفيح، ولم يمض سوى يوم فقط على بناءها، ورائحة الإسمنت لا زالت تفوح في المكان الشبيه بزنزانة فردية لولا فتحة يراد لها أن تكون نافذة عند توفر السيولة المالية، ولعدم وجود شبكة صرف صحي فإن باب دورة المياه الحديدي سيقفل في انتظار حفر خزان للصرف الصحي.
المدرسة جيدة
داخل أحد الفصول برزت أسلاك الكهرباء بطريقة غير آمنة، بينما كان المعلم منهمكاً بشرح درس اللغة العربية لتلاميذ الصف الثاني الابتدائي مستعينا بأشعة الشمس المارة من خلال النافذة في غياب نور الكهرباء.
المعلم الذي يقضي أول أيامه في المدرسة عجز عن وصف الوضع واكتفى بالقول والحيرة بادية على وجهه “لا مجال للتراجع، سأواصل المهمة”.
سألت إحدى التلميذات واسمها هيام عن حال المدرسة فردت الطفلة ببراءة “أنها جيدة”، عقّب عقيلة مبتسماً “تلاميذ القرية لا يعرفون شيئا عن ما يدور خارج القرية، فمثلاً حين نعطيهم درساً عن احترام إشارات المرور يتوجب أن نعرفهم بها فهم لم يروها مطلقاً في قريتهم”.
التلاميذ يتبرعون للجبهة
مررنا بفصل الصف الأول الابتدائي الذي رفرف فوقه علم الاستقلال، ابتسم في وجهي أحد التلاميذ و فرش كفيه أمامي معتقداً أنني مفتش الصحة المدرسية، أما الجدران فكانت مهترئة بشكل كبير حتى أن الصوف العازل كان ظاهراً، وقد غطتها خربشات طفولية تؤيد ثورة السابع عشر من فبراير وتنادي بليبيا حرة مستقلة.
علق عقيلة بأن تلاميذ الصف السادس الابتدائي قد تبرعوا خلال الثورة لجبهة البريقة بـ45 ديناراً، ودعاني لزيارة هذا الفصل.
دخلنا فصل الصف السادس الذي يُعتبر فخر المدرسة لنظامه ومستوى تلاميذه الجيد، فوقف التلاميذ الذين كان أغلبهم بناتاً لتحيتنا، اشتكت سجى من البرد قائلة “عندما يحل البرد أعجز عن فعل أي شيء، إنه برد شديد، لكن ينبغي علي أن أركز حينها في الدرس”.
طلبت ممن يريد من التلاميذ أن يصبح طبيباً حين يكبر أن يرفع إصبعه ففعل أغلبهم ذلك، عندها سألت عقيلة “هل سيصبح أحد تلاميذك يوما طبيباً؟”، فرد بتفاؤل “بالتأكيد فقد خرج من مدرستنا ضباط ومعلمين”.
فضاء مفتوح
مع حلول موعد استراحة الإفطار، انتشر التلاميذ جماعات في الفضاء المفتوح لعدم وجود سور حول المدرسة، بينما تحلق المعلمون قرب سياراتهم لتناول الإفطار، قال لي أحدهم وهو يستند على إحدى السيارات “عندما يكون الجو مشمساً كما هو اليوم فإننا نفطر في الهواء الطلق، وعند هطول الأمطار نضطر للبقاء بالغرفة والمياه تتساقط علينا مخترقة سقف الصفيح”.
وأضاف أخر “تُعتبر الحصة الأولى في مدرسة طيبة الاسم مشكلة، ففي فصل الشتاء تنخفض درجة الحرارة و تدخل الأمطار إلى الفصل وتغطي حتى السبورة ما يجعل من الصعب إكمال الدرس”.
يروي داوود وهو أحد سكان القرية الذين سبق لهم أن درسوا في هذه المدرسة في سبعينيات القرن الماضي لمراسلون “أنشئت المدرسة في بداية السبعينيات، وكانت حينها مجرد خيمة، قبل أن يُبنى محلها غرفة صفيح، وبمرور الزمن حصلنا على ثلاث حاويات”، مستذكراً مع عقيلة بدقة رحلة شحن إحدى الحاويات من قرية مجاورة استغنت عنها بعد بناء مدرسة حديثة فيها.
حان موعد مغادرتي المكان، ومثلما استقبلني عقيلة بحفاوة وجه لي دعوة لتناول الغداء في بيته، فاعتذرت منه وقفلت عائداً، وبعد ساعتين من مغادرتي تلبدت السماء بالغيوم وهطلت الأمطار بقوة، عندها تذكرت أجساد التلاميذ الصغيرة، والأسقف المهترئة ودورة المياه المعطلة، وفوق كل ذلك علم الاستقلال المرفرف.
فهل سيتغير هذا الوضع المجحف قريباً؟ وهل سيتحقق حلم أي من تلك الفتيات في أن تصبح طبيبة؟، أسئلة تبقى برسم الإجابة من قبل مسؤولي ليبيا الجديدة.