لصْق الحائط يجلس “حمزة” – طفل سوري – على طرف مقعد خشبي مزدوج، فيما تتخذ “وعد” – طفلة ليبية – من الطرف الآخر للمقعد مجلساً لها، الطفلان في التاسعة من عمرهما، شاءت الأقدار أن تجمعهما وحْشة مدينة واحدة، بعد أن فرّقتهما الحرب عن عالم أحلامهما البريئة، التي تركاها فارين من جحيم الحرب في بلدهما.

“حمزة جاويش” و”وعد أنور” تلميذان في الصف الرابع الابتدائي، سوري وليبية، ساقتهما ظروف الحرب إلى أرض غريبة، تترصّدهما فيها مجاهل مستقبل وعِر. 

رحلة الهرب

لصْق الحائط يجلس “حمزة” – طفل سوري – على طرف مقعد خشبي مزدوج، فيما تتخذ “وعد” – طفلة ليبية – من الطرف الآخر للمقعد مجلساً لها، الطفلان في التاسعة من عمرهما، شاءت الأقدار أن تجمعهما وحْشة مدينة واحدة، بعد أن فرّقتهما الحرب عن عالم أحلامهما البريئة، التي تركاها فارين من جحيم الحرب في بلدهما.

“حمزة جاويش” و”وعد أنور” تلميذان في الصف الرابع الابتدائي، سوري وليبية، ساقتهما ظروف الحرب إلى أرض غريبة، تترصّدهما فيها مجاهل مستقبل وعِر. 

رحلة الهرب

حرب شرسة انتزعت “حمزة” وأسرته من بيتهم في محافظة “دير الزور” شرق سوريا، وأجبرتهم على خوض غمار رحلة شاقّة  إلى  ليبيا، مروراً بمصر، مُطاردين بفائض ذكريات مؤلمة.

يقول “حمزة” هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها خارج سوريا، لقد خرجتُ من بلدي رفقة أمي وأخي وأختي، هربنا من رجال النظام “الشبِّيحة”، الذين أرادوا قتل أخي إثر انضمامه إلى “الجيش السوري الحر”، أما والد “حمزة”، كما يقول ابنه، فقد شيّعهم وقرر البقاء في سوريا لبعض الوقت.

أما “وعْد” بنت “تاورغاء” الواقعة على بعد 700 كم غرب بنغازي، والتي أُرغمت هي الأخرى على النزوح إلى بنغازي في شرق ليبيا رفقة أسرتها، تجمعهم مقصورة شاحنة “نصف نقل” واحدة، فتروي قصتها بتعابير تطابق حالة الحزن التي تحدث بها حمزة. 

فتقول متلعثمة “لقد أخرجنا ثوار “مصراتة” رغماً عنا من مدينتنا، خرجتُ مع أمي وأبي في سيارة “نصف نقل”، تحت وابل نيران القصف إلى مدينة “الجفرة” – وسط ليبيا – حيث مكثنا في بيت خالتي، تاركين وراءنا أثاثنا ومعظم ملابسنا وألعابنا”.

رعب لن ينسى

يصف حمزة لحظات الرعب التي عاشها في سوريا قائلاً “كثيراً ما كنتُ أستيقظ فزِعاً من صوت إطلاق الرصاص ودوي المدافع، أنا أخاف من طائرات “الميغ” و”الهليوكوبتر”، كنت أحضن أمي وأبي وأسألهما ما الذي يحدث، فيُجيبانني بأنها مجرد ألعاب نارية واحتفالات”. 

لكن “حمزة” وبمجرد استحضاره لحادثة مقتل جارهم “محمد  الجارح”، يكشف علمه بأن تلك تلك الأصوات لم تكن محض احتفالات، “لم أصدِّق موت عمي “محمد”، أطلق عليه قناص رصاصةً اخترقت قلبه، فأردته قتيلاً أمام باب بيته، لقد أصبح صديقي يتيماً، هذا  ليس احتفالاً كما أخبرني والداي، وإنما هي حربٌ شنَّها علينا “بشار الأسد”، يريد منها تشريدنا وقتلنا وإبادتنا”.

“وعد” كما يؤكد أبوها “أنور التاورغي”، الذي كان يعمل موظفا في قطاع الزراعة بمدينة “مصراتة” قبل الحرب، كانت  أكثر إخوتها رُعباً وأشدهم فزعاً، وبحسب قوله فهي مازالت تعاني من كوابيس منتصف الليل، وتستيقظ باكية دون سبب مؤكدة سماعها صوت الصواريخ يتردّد في رأسها”.

بحث عن الاستقرار

لم يدم مقام “وعد” وأسرتها طويلاً في “الجفرة”، فكما تروي بدأ سكان المنطقة بمضايقتهم، على خلفية انتمائهم إلى مدينة” تاورغاء”، التي عُرفت بتأييدها لنظام القذافي المنهار، تقول “وعد” “يعيِّروننا بأننا ساندنا القذافي في الحرب، هذا ليس صحيحاً، فليس جميع سكان تاورغاء مؤيدون للقذافي”.

قرر والد “وعد” إثر المضايقات المتكررة ترك مدينة “الجفرة” متوجهاً بأسرته إلى مدينة “سرت”، علها تكون أكثر أمناً، فمكثت العائلة في “كامبوات” سرت وهي حاويات سكنية مخصصة لنازحي تاورغاء. 

بقيت فيها الأسرة أياماً معدودة، ثم شدوا الرحال مجدداً إلى مدينة “هراوة” – شرق سرت – حيث لم يكن من مكان مخصص لاستقبالهم، تروي وعد “افترشنا الصحراء صحبة عائلة عمي، وبعض أقاربنا، وبقينا في هذه الظروف شهراً كاملاً،  لم نكن نأكل سوى الخبز الذي تصنعه أمي وقريباتها، وبعد ذلك استطعنا الوصول إلى بنغازي”.

هناك، تواصل وعد “كان سائقوا سيارات الأجرة يرفضون أن يقلُّونا، بمجرد معرفتهم بأننا من مدينة تاورغاء”، وتؤكد ممتعظة “الجميع يظن أن “تاورغاء”مدينة مؤيدة لنظام القذافي”.

ذاكرة الغربة

في زمن الحروب والنزاعات تتشابه طبيعة الشقاء، وإن تبدّت في صور وأشكال مختلفة، وضحاياها دائماً يكابدون من أجل الحصول على لحظات آمنة.

السيدة “نادية” والدة “حمزة” التي تكفّلت برعاية أبنائها خارج وطنها “سوريا” في غياب زوجها، تقول إن سبب اختيارهم المجيء إلى ليبيا دون غيرها هو طيبة شعبها، وتوفُّر فرص العمل، ولكنها في ذات الوقت تؤكد “إيماننا بالله كبير، هو الحافظ لنا وحامينا”.

هذه المشاعر لا يعيشها والد “وعد”، والذي يصف اللحظات التي عاشوها في مدينتهم بأنها “مرعبة”، ويؤكد بأن “من لم يشهد الحرب في المنطقة الغربية – من ليبيا –، فهو لم يرَ شيئاً”.

“أنور التاورغي” يقول بأن الحرب انتهت هذا صحيح ولكنه وأبناء تاورغاء “عانينا كثيراً، ومازلنا نحيا زمن وصعاب الحرب” حسب قوله.

وعد لم تخفِ رفضها العودة إلى “تاورغاء”، مبررة ذلك بخوفها من أصوات الانفجارات وإطلاق النار، كما أنها تحمد الله على أن صديقاتها ضمن النازحين معها  في بنغازي، فهي على الأقل لا تشعر بالوحدة، حسب وصفها. 

أما حمزة فما زال يغمره الشوق لوطنه ومدرسته، ولأولاد عمه “مصطفى” و”ابراهيم” و”آية” أخته في الرضاعة، والذين يقول عنهم “أنا أحبهم كثيراً، وأتمنى أن أراهم قريباً”. 

الطفلان يعيشان بذاكرة غربة واحدة، إلا أن “حمزة” لازال يملك الكثير من الأمل الذي فقدت وعد معظمه في ظل الوضع الراهن في ليبيا بعد الثورة، فما من أمل يلوح في الأفق لإيجاد حل حقيقي لمعاناتها وأبناء مدينتها، فيما “حمزة” لديه الحلم الذي ينام ويصحو عليه كل ليلة بسقوط نظام بشار الأسد، وعودته إلى وطنه من جديد.