لو كانت مسودة الدستور المصري التي يصوت المصريون على قبولها أو رفضها يومي 15 و22 ديسمبر –تشرين الثاني خرجت في ظروف مختلفة لكان للدعاية المؤيدة والرافضة لها شأن آخر حسب الخبراء، لكن الجدل السياسي الكبير والغضب الذي ضرب الشارع المصري بسبب إصرار نظام الرئيس محمد مرسي على فرض مسودة دستور عليها خلاف كبير بين طوائف الشعب والأحزاب السياسية جعلت الدعاية التي تشجع الناخبين على التوجه لصناديق الاقتراع لا تحظى بالتأثير المناسب خصوصا من ناحية التوقيت حيث انطلقت الاعلانات التلفزيونية وظهرت دعايات الشوارع والصحف قبل أسبوع واحد من فتح الصناديق تأثرا بكل ما كان يتردد حول إمكانية تأجيل الاستفتاء.

استقطاب حاد

رغم ذلك تصاحب الحملات الاعلانية تلك العديد من الملاحظات وعلامات الاستفهام التي تكشف عمق الأزمة التي سببها هذا الدستور بين المصريين، بداية من عدم الكشف عن الجهات التي من مصلحتها أن يصوت الناس بنعم أو لا بحيث تنفق هي على هذه الاعلانات خصوصا التلفزيونية منها حيث تتعاظم كلفة التنفيذ والبث التلفزيوني، وصولا إلى المضمون نفسه الذي كشف حجم الاستقطاب بين الفريقين وحاجة كل فريق لكسب الجمهور الحائر بين لا ونعم، حتى لو وصل الأمر إلى مبالغات وتجاوز لا تقبله الحملات الاعلانية مثلما حدث في أشهر اعلانات “نعم” والذي تعرضه قناة مصر 25 الإخوانية تحت عنوان “رموز مصر قالوا نعم للدستور والاستقرار” حيث لا يوجد في الاعلان أيا من الشخصيات التي يمكن أن تحمل لقب “رمز مصر” كما تضمن الاعلان عبارات تدعو للسخرية مثل “البشرية لم تعرف دستورا يكفل كل هذه الحقوق والواجبات” والأهم وجود ثلاثة من أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور بين وجوه الاعلان أي أن من كتبوا الدستور محل الخلاف هم الذين يطالبون الناس بالتصويت عليه بنعم. 

على الجهة المقابلة استعان أصحاب حملة “لا” بوجوه من الشارع وسط تركيز واضح على الآثار الاقتصادية السلبية للدستور في حال اقراره خصوصا فيما يتعلق بفرص العمل والصحة والتعليم وتذكير الناس الذين قالوا  “نعم” في استفتاء مارس 2011 تحت إشراف المجلس العسكري بأن “نعم” تلك لم تجلب الاستقرار لمصر. أما الاعلانات الحيادية فهي الصادرة عن اللجنة التأسيسية نفسها وصحيح أنها تنتهي بتخيير المشاهد ما بين “نعم” و”لا” لكن تحليلها علميا يؤكد أنها تدفعه بالطبع للتصويت بنعم لأنها باختصار تستعرض كل ايجابيات الدستور.

الفئة الحائرة تزداد حيرة

د. صفوت العالم – أستاذ الرأي العام بجامعة القاهرة- يؤكد أنها المرة الأولى التي ينفق فيها البعض على اعلانات تلفزيونية كي يقول الناس نعم ولا، وبالطبع من الصعب الكشف عن حجم هذا الانفاق والملايين التي صرفت في كلا الاتجاهين لكنه مؤشر بالتأكيد لرغبة قوى متصارعة في جذب المجتمع إلى الضفة التي تقف عليها كل قوة بعيدا عن الضفة الأخرى، مشيرا إلى أن معظم الاعلانات تتعامل مع الدستور بشكل كلي لا جزئي تفصيلي، أي قل نعم للاستقرار أو قل لا للدستور الذي سيجعل “العيشة مرار” ، لكن أي تفاصيل لها علاقة بالدستور نفسه وبمواده غائبة في هذه الاعلانات التي تركت المهمة للبرامج التلفزيونية

ويستبعد العالم أن تؤثر تلك الاعلانات على من قال نعم أو لا منذ بداية الجدال لأن هؤلاء يرون في الاعلانات ما يؤكد وجهة نظرهم فمن قرر التصويت بلا سيقتنع أكثر عندما يشاهد الدعاية المؤيدة لوجهة نظره ويتجنب تلقائيا الدعاية المضادة والعكس صريح، أما الفئة الحائرة فستزداد حيرة إذا تابعت كلا الفريقين بسبب حالة الانقسام الشديد الذي يسود المجتمع. وانتقد صفوت العالم غياب الدعاية التي تساعد الناخب على معرفة لجنته وموعد الانتخاب في المحافظة التي ينتمي لها بعد القرار المفاجئ بجعل التصويت على مرحلتين وهي المهمة التي كانت تقوم بها حملات المرشحين في الانتخابات الرئاسية لكن الآن لا يهتم أحد إلا بنعم ولا دون الحرص على ذهاب الناس أنفسهم للتصويت.

الحملات السياسية ظاهرة ديموقراطية

من جانبه يرى د. حسن عماد مكاوي – عميد كلية الإعلام جامعة القاهرة- أن الناس في الشارع ليسوا بحاجة هذه المرة لدعاية تلفزيونية لأن نقاشاتهم حول الدستور لا تنتهي خصوصا تلك الفئة التي تعرف أهمية الدستور في الحياة اليومية للمصريين وليست الفئة التي لا تهتم إلا بلقمة العيش فهؤلاء قد لا يذهبون أصلا للتصويت، ويؤكد مكاوي أن الناس أصبحت على وعي كبير يجعل تأثير إعلان تلفزيوني مدفوع الأجر غير وارد في تغيير أرائهم خصوصا وأن الاعلانات من الواضح أنها مصنوعة لخدمة صاحب وجهة النظر وهو ما يلمسه المشاهد الذكي سريعا بالتالي نحن بحاجة لاعلانات تتوافر بها المصداقية والتوازن حتى يصدقها الناس.

ويتفق معه د. محمود يوسف – رئيس قسم العلاقات العامة والاعلان بجامعة القاهرة- الذى يرى أن الاتصال الشخصي والجماهيري هو المؤثر الأكبر في الدعاية للتصويت بنعم ولا في هذا الدستور، لأن شخصا ذو مكانة في مجتمعه المحلي قد يقنع الناس بالتصويت بنعم مثلا أكثر من أي حملة اعلانية يراها نفس الجمع في التلفزيون أو يتابعونها في الصحف والشوارع، مستبعدا أن تؤثر تلك الحملات في أصحاب المواقف التصويتية المحددة مسبقا، مؤكدا ان المساجد والكنائس والأندية والمقاهي هي أيضا لها دور كبير في توجيه اتجاهات الرأي العام خصوصا في ظل عجز الملايين عن تدقيق ما يصل لهم من معلومات فيختارون التصويت حسبما يشير الشخص المقرب لهم والذي يتمتع بثقتهم، غير أن د. يوسف لا يرى أي غرابة في انتشار الحملات التي تدفع المصريون بالتصويت بنعم أو لا وحجم الانفاق عليها لأن تلك الحملات من الظواهر الثابتة في المجتمعات الديموقراطية غير أن المصريين لم يعتادوا عليها بعد لكنه يتفق مع د.صفوت العالم في حق المجتمع معرفة حجم الانفاق على تلك الحملات الدعائية.

بقيت هنا ملاحظتان، الاولى غياب المشاهير من النجوم والاعلاميين والرياضيين بشكل واضح عن حملات التصويت بنعم ولا، ربما بسبب ضيق الوقت لكن الأهم هو حجم الاستقطاب في المجتمع، ثانيا أن القنوات المؤيدة لنعم مثل مصر 25 الإخوانية لا تعرض بالطبع اعلانات “لا” والعكس صحيح.