ظلت كلمة “الثورة” قبل ما حدث في تونس ثم مصر وما تلا ذلك من موجات ثورية في العالم العربي، مجرد كلمة، يحلم بها البعض، ويتندر عليها الكثيرون، مجرد كلمة مطبوعة على ورق، ولم يكن الجميع يعرف معنى أن تعيش لحظة تغير إجتماعي وسياسي..أن تعيش الثورة.

ظلت كلمة “الثورة” قبل ما حدث في تونس ثم مصر وما تلا ذلك من موجات ثورية في العالم العربي، مجرد كلمة، يحلم بها البعض، ويتندر عليها الكثيرون، مجرد كلمة مطبوعة على ورق، ولم يكن الجميع يعرف معنى أن تعيش لحظة تغير إجتماعي وسياسي..أن تعيش الثورة.

وظلت الثورة أيضا كلمة تليها نقطة انتهاء، فكل الثورات التي قرأنا عنها قد انتهت، أدت غرضها في الحياة والتاريخ وانتهت، بينما نحن مازلنا نعيش في “اللحظة الثورية” التي اكتشفنا أنها ليست مجرد لحظة ولكنها امتدت حتى الأن لتصبح عامين، وأصبحنا نؤمن أنه مازال أمامنا سنوات أخرى تعيشها تحت رحمة اللحظة المتغيرة، القلقة، التي أخرجت لنا بطن المجتمع والدولة لتضعه على قارعة الطريق..سنعيش أعواما تحت رحمة “اللحظة الثورية”.

“عن فضول وليس اقتناع”

ويظل سؤال تعامل الفن مع الثورة، أحد أهم الأسئلة التي تطرحها سنوات اللحظة الثورية، كيف يمكن أن ينتج الفنان عمله في الزمن الثوري، هل عليه الانتظار حتى يمكنه استيعاب وهضم ما يحدث ثم يخرجه فنا، أم عليه الاشتباك الآني مع ما يطرح عليه من أسئلة وأفكار جديدة صنعها الانفجار الثوري.

في هذا السياق تأتي الدورة الخامسة لمعرض “فوتو كايرو –  PhotoCairo” الذي نظمه مركز الصورة المعاصرة في الفترة بين 14 نوفمبر وحتى 17 ديسمبر وتم عرض أعمال الفنانين المشاركين في أكثر من ساحة فنية في وسط القاهرة حيث شهد مركز “التاون هاوس”، و”واجهة دكان” أعمالا للفنانين المشاركين بالاضافة إلى مركز الصورة المعاصرة.

عنوان دورة هذا العام “عن فضول وليس إقتناع” وهي جملة مستقاة من تعليق عابر في عمل المخرج الألماني “هارون فاروقي” الذي يحمل عنوان “فيديوجرامات الثورة” والذي يلقي من خلاله الضوء على دوافع مصور تابع للتلفزيون الروماني الرسمي اثناء اندلاع احداث الثورة الرومانية في عام 1989 حيث مر بكاميراته سريعا على مظاهرة معارضة ضاربا عرض الحائط بالتعليمات الرسمية. ويشهد “فوتو كايرو” عروض لعدد من أفلام فاروقي التي تطرح تساؤلا حول التعايش المجتمعي وموازين القوى والسياسة وقسوة الحرب والتزايد المطرد لقوة رأس المال.

عندما تخلد السلطة ذكرى هزيمتها

تبدو الاعمال المشاركة في “فوتو كايرو” كمحاولة للاجابة عن سؤال تعامل الفن مع اللحظة الثورية المستمرة التي يعيشها الجميع، ونظرا للمسار الذي اتخذته الثورة في مصر، الذي فتح جميع الاحتمالات على اقصى مدى لها، من أكثرها فاشية ودموية وحتى أكثرها رومانسية وثورية.

في ساحة مصنع التاون هاوس يستقبلنا عمل الفنان سمير الكردي “نصب العبارات الطنانة” وهو عبارة عن صور متتابعة يصحبها نص يقطع الصور المتراصة، يتخيل العمل أن السلطات في المدينة – التي نعرف من الصور أنها القاهرة – قررت اقامة نصب تذكاري لتخليد ذكرى الثورة التي قامت ضد السلطات نفسها، النصب التذكاري عبارة عن بناء حجري بطول عشرين كيلو متر وعرض خمسة أمتار ويخترق الأماكن والشوارع التي مرت بها التظاهرات وقت الثورة المفترضة. ومع تتابع الصور يظهر السور الحجري الضخم الذي يبدأ تقريبا من منطقة الأوبرا ليخترق كوبري قصر النيل ثم يعبر من امام مبني الحزب الوطني المحترق ويدور حول مبنى التلفزيون ثم يخترق شوارع وسط القاهرة.

يبدو مظهر البناء الحجري الصلد كابوسيا في عبوره على الأماكن الحقيقية التي شهدت أحداث الثمانية عشر يوما الأولى في الثورة المصرية، وفي الأماكن التي شهدت صدامات دموية بين قوى الأمن والمتظاهرين فيما بعد مثل مبنى ماسبيرو، ويبدو تصور جنوح السلطة إلى هذا الشكل الفاشي المجنون في تخليد وقائع ثورة قامت ضدها، ليس بعيدا عن الواقع الذي تعيشه مصر حاليا، خاصة مع وصول قوى جديدة إلى الحكم في مصر يبدو أن غاية همها هي وراثة الحكم القديم بكل وسائل قهره وطغيانه، بالاضافة إلى أن الثورة أصبحت كلمة يستعملها الجميع من القيادات الجديدة إلى رموز النظام السابق بهدف القضاء على الطاقة الجديدة التي انتشرت في البلاد منذ بداية “الثورة”.

يفتح عمل سمير الكردي “نصب العبارات الطنانة” المدى لتخيل فاشية السلطة عندما تقتل الثورة باسم الثورة وتحتفل بانتصارها عبر تقييد شوارع المدينة باسم “الثورة”.

تدوير القهر السلطوي

بينما نشاهد في مركز الصورة المعاصرة فيلم “بحري” من تأليف وإخراج أحمد الغنيمي، يحكي الفيلم عن اثنين من أصحاب المراجيح التقليدية في حي بحري الشعبي في الاسكندرية حيث يقوم الاثنين باستجواب شاب قام بتصوير الاطفال اثناء لعبهم بالمراجيح. الحوار القليل في الفيلم يظهر كيف يمكن ان يمارس المواطن على مواطن مثله نفس القهر الأمني الذي تمارسه السلطة على المواطنين حيث تبدو طريقة الاستجواب من أصحاب المراجيح نفس الطريقة التي يستعملها ضباط أمن الدولة مع المعتقلين السياسيين، وثمة تهمة يحاول الإثنين لصقها بالشاب وهي “المثلية الجنسية” وبعد ليلة طويلة من “التحقيق” يصدر أحدهما حكمه على الشاب بألا يأتي إلي الحي مرة أخرى.

الفيلم الذي حمل في بدايته اشارة إلى أن الاحداث مستقاة من واقعة حقيقية يظهر كيفية إعادة انتاج القهر السلطوي بنفس آلياته وأدواته ولكنه هذه المرة بين مواطن أقوى وأخر أضعف، ولكن في النهاية القوي هو من يستطيع فرض حكمه.

وباء الرقص

من الاعمال الملفتة للنظر أيضا في “فوتو كايرو” عمل “وباء الرقص” لأندريه مارو وهو عرض لشرائح مصحوبة بسرد صوتي عن حكاية رقص هستيري بدأتها أمراة امام مبنى البرلمان الأوربي ثم بدأ اخرون يشاركونها الرقص، بينما تعرض الصور اشكالا مختلفة بداية من قاعة البرلمان الاوربي إلى اشكال العمارة الحداثية من النمط الباروكي المليء بالزخارف والذي بدأ مع عصر الصناعة مرروا بالاشكال الاحداث حتى الانماط ما بعد الحداثية في البناء تتابع الصور مع سرد قصة الرقص يظهر قسوة سلطة المدينة الحديثة بمختلف اشكالها على الوجود الجسدي للفرد المقموع بدرجات متفاوتة من هذه السلطة والتي تبدو من خلاله قصة الرقص وكأنها رقصة طائر ذبيح يلعن رفضه برفرفته الاخيرة التي تتناثر منها الدماء.

أعمال الدورة الخامسة لمعرض”فوتو كايرو” تعرض إجابة لاشتباك الفن مع اللحظة الثورية التي يعيشها الجميع في مصر، إجابة تخشى الفاشية وإعادة إنتاج القهر والتسلط، وتحتفي بأحلام الفرد في الحفاظ على ذاته وجسده والدفاع عنهما كي يستطيع الاستمتاع بمجتمع ما بعد “اللحظة الثورية”.