من فوق جسر بنزرت يتأمل محمد الشارني هذا الامتداد اللامتناهي للبحر الأبيض المتوسط. يملأ رئتيه بنفس عميق من نسمات بحرية خريفية، محاولاً استرجاع ذكريات أجواء مدينة بنزرت التونسية قبل أن يأتي “هذا الغول الإسمنتي”، في إشارة إلى الجسر المتحرك.

من فوق جسر بنزرت يتأمل محمد الشارني هذا الامتداد اللامتناهي للبحر الأبيض المتوسط. يملأ رئتيه بنفس عميق من نسمات بحرية خريفية، محاولاً استرجاع ذكريات أجواء مدينة بنزرت التونسية قبل أن يأتي “هذا الغول الإسمنتي”، في إشارة إلى الجسر المتحرك.

يقول عم محمد وعيناه الصغيرتان متسمرتان في الأفق: “في ستينات القرن الماضي لم يكن هناك جسر، كان البطاح (العبّارة) هو وسيلة النقل الأساسية بين بنزرت والمدن المجاورة. كان هناك بطاحين، الأول يسمى بطاح باب تونس، والثاني بطاح بنزرت.” ويضيف عم محمد بابتسامة خجولة: “كنا أيضاً نتنقل في زوارق الصيد في رحلات حميمية، أو مع الأصدقاء لبلوغ الضفة الأخرى.”

جسر جديد في الأفق 

[ibimage==3161==Small_Image==none==self==null]

الجسر

من ناحية أخرى تدرس الحكومة التونسية إمكانية إنشاء جسر عصري يربط مدينة بنزرت بالمدن الشرقية، ويضع حداً لحالة الاختناق المروري. وفي هذا الصدد كشف مهدي شلبي، المدير الجهوي للتجهيز ببنزرت، عن “انطلاق دراسات محلية وأجنبية، ورصد استشارات موسّعة مع شخصيات رفيعة المستوى ومختصين في بناء الجسور المتحركة.”

ويرى شلبي أنه من المنتظر الشروع في بناء جسر متحرك جديد ممتد أو إنشاء نفق. لكن اتخاذ قرار من هذا النوع “سيتم في ظل ما ستقدمه الدراسات من مقترحات في غضون سنتين.”

جسر متحرك يعوض البطاح

وفي محاولة دؤوبة لربط مدينة بنزرت باليابسة شهدت القناة الفاصلة بين الضفتين عدة تجارب، من أبرزها “البطاح” (العبّارات). لتصبح البطاح وسيلة النقل الوحيدة التي تربط ضفتي القناة إلى أن جاءت فكرة بناء جسر متحرك ببنزرت في سبعينيات القرن الماضي.

يتذكر منوبي البجاوي، أحد أهالي بنزرت والبالغ من العمر 66 عاماً، “في تلك الفترة لم يكن الجسر المتحرك يوحي إلا بالانبهار والدهشة. فقد كان يرتفع بكبسة زر، فتمر البواخر العملاقة، ثم ينبسط بكل طواعية لمرور السيارات والمشاة.” ويؤكد منوبي بكل ثقة “بالنسبة لجيلي كان الجسر المتحرك دليلاً على معجزات العلم والتطور.”

تعود فكرة إنشاء جسر متحرك بهذه المدينة إلى حقبة الاستعمار، حينها قررت فرنسا إنشاء أول وسيلة ربط بين ضفتي القناة، بهدف وصل مدينة بنزرت ببقية المدن من الجهة الشرقية. وتولى المهندس الفرنسي “أرنودان” سنة 1898 تصميم وإنشاء عربة معلقة تجرها محركات ضخمة. ولكن نظراً لما كان يتوقعه الجيش الفرنسي من هجومات عسكرية على المدينة، فقد تم تفكيك العربة بعد فترة وجيزة.

ومع قدوم ستينيات القرن الماضي، بدأت تونس تفكر جدياً في تنفيذ المشروع الذي يصل ضفتي القناة ببعضهما. وقد دامت الدراسة الفنية للمشروع أربعة أعوام، لتبدأ الأشغال فعلياً في عام 1977. ويتم تدشين الجسر المتحرك بعد ثلاثة أعوام. الأمر الذي غيّر المدينة وأهلها بشكل جذري، فقد نقل هذا الإنجاز حياتهم من زمن إلى آخر.

وحسب منوبي فإن الجسر يتجاوز كونه مجرد إنجاز صناعي، فهو “مليء بالتاريخ والذكريات،” يشير بإصبعه للمكان “من هنا عبرت قوات الاستعمار في معركة الجلاء مدحورة، حيث دارت معركة بين التونسيين والجيش الفرنسي والتي تم على إثرها إجلاء آخر جندي فرنسي عن الاراضي التونسية.

ويواصل منوبي ويده مبسوطة إلى نفس المكان “ومن هنا عبر قادماً الزعيم الحبيب بورقيبة مظفراً.” أول رئيس لتونس بعد جلاء الاستعمار الفرنسي.

من نعمة إلى نقمة

ترتفع أصوات منبهات السيارات، وتكتظ حركة السير تدريجياً، فبعد قليل ستقطع حركة المرور، إذ أصبح موعد رفع الجسر وشيكاً، والكل يريد أن يمر ولا أحد مستعد للانتظار.

يعبًر أكرم الخميري، 27 عاماً، والذي بلغ مدخل الجسر، عن تذمره من فوضى الازدحام وما يسببه له من تأخير يومي عن عمله، إضافة إلى ما يترتب على ذلك من انعكاس سلبي على معنوياته الصباحية. ويقول متذمراً “سائقو سيارات الأجرة يعانون يومياً جراء هذا الوضع”.

ويضيف “أضطر إلى عبور الجسر أكثر من مرة في نفس اليوم، مما يجعلني أحيانا أفقد اعصابي وأدخل في مشادات كلامية مع سائقي السيارات.”

تواجه حركة السير حالة من الاختناق، بخاصة في أوقات رفع الجسر لمرور البواخر التجارية عبر الميناء؛ وبذلك تصاب حركة مرور السيارات والمشاة بشلل تام من الجانبين، من مدينة جرزونة المحاذية ومن مدينة بنزرت، التي تغص شوارعها بالعربات من مختلف الأحجام مما يتسبب أحياناً في مشادات كلامية بين سائقي السيارات قد تتطور في بعض الحالات إلى مشاجرات.

ازدحام حركة المرور لا يعرف الاستثناءات، فحتى سيارات الإسعاف هي الأخرى تلقى صعوبة كبيرة في المرور بالحالات الخطيرة إلى الضفة الأخرى. وحدث مرة أن وضعت أم مولودها داخل عربة إسعاف.

ولعل أطرف المواقف التي حصلت بسبب تعطل حركة المرور فوق الجسر، تأخر وصول عروس من مدينة منزل عبد الرحمان إلى وسط مدينة بنزرت، مما أثار غضب العريس ووالدته، فاستقبلاها بعبارات اللوم والعتاب في ليلة زفافها، بدلاً من عبارات الإطراء المعهودة في هذا النوع من المناسبات.

يبدو أن التذمر بات سمة ملازمة لجسر بنزرت المتحرك، فمن وراء مقود سيارته الخاصة اعتبر طاهر بن كاملة، 47 عاماً، صاحب مؤسسة خاصة ببنزرت، “الجسر المتحرك كابوسا يؤرقني يوماً بعد يوم”، فطاهر  يعمل مزوداً لبضائع تابعة لشركته من معتمدية منزل جميل. وعادة ما يتأخر عن توصيل الطلبات اليومية  لزبائنه، لذا قرر فتح فرع لشركته بمنزل جميل تفاديا لهذا الأمر المنغص، حسب قوله.

الجسر يعيق التنمية

وحسب عدد من المواطنين فإن الجسر المتحرك أصبح يشكل عائقا للتنمية الاقتصادية في المنطقة. إذ يعتبر عبد الحميد بن منى، صاحب مصنع، أن “الحركة الاقتصادية والتجارية بالمنطقة تكاد تكون محدودة نظراً لاختناق الحركة المرورية بسبب الجسر، أضف على ذلك كثرة الشاحنات الصناعية” وهو ما أثّر سلباً على الاستثمار الاقتصادي وجعل المستثمرين يتجهون نحو مناطق أخرى لإنشاء مشاريع تنموية حسب رأيه .

ويرى أهالي المنطقة أن هذا التأثير السلبي لم يقتصر على الوضع الاقتصادي فحسب، بل مس كذلك المشهد السياحي بالمدينة لا سيما خلال فصل الصيف وعودة المغتربين التونسيين من الخارج، فتصل طوابير السيارات إلى ما بعد محطة النقل البري بجرزونة.

ولئن مثّل الجسر المتحرك في الماضي مفخرة معمارية وجمالية لأهالي مدينة بنزرت، إلا أنه أضحى في الوقت الحالي معضلة حقيقية وهاجساً مخيفاً لكل مستعمليه. وبالرغم من كل الانتقادات الموجّهة إلى الجسر المتحرك بمدينة بنزرت، إلا أنه لا يزال شريان الحياة في المنطقة نظراً للدور الحيوي الذي يمثله من خلال ربط مدينة بنزرت ببقية مناطق البلاد. 

ويشار إلى أنه في عام 2008 أصدرت السلطات التونسية قراراً بمنع مرور الشاحنات الثقيلة لتخفيف الضغط على الجسر. إلا أن القرار لم يسرِ إلا مؤخراً بعد أن سُجلت حوادث مرورية قاتلة. كما خضع الجسر لأعمال صيانة تتمثل في رصف أرضيته بالإسفلت بعد أن تعرت تماما بسبب الاستعمال المفرط للشاحنات الثقيلة.

لكن هذه الإجراءات اعتبرها أهالي بنزرت غير كافية، وطالبوا بتحقيق حلمهم في بناء جسر جديد يحل بشكل جذري مشاكل التنقل والاختناق المروري.

وفي انتظار حلول عملية يأمل سكان بنزرت في التخلص من كابوس الاختناق المروري الذي يعانون منه يوميا، وذلك من خلال بناء جسر جديد بتقنيات حديثة، لتكون بداية لانفراج المشكلة التنموية والحياتية.

في الأثناء يحنّ عم محمد الشارني لجولة بالزورق، بعيداً عن الضجيج والتلوث. جولة تعيد إلى ذاكرته أيام زمان والذي كان.