لم يدر بخَلد التلميذ أحمد عيسى وهو يركض مع رفاق طفولته بين التماثيل الإغريقية بمدينة شحات في الشرق الليبي، أنه سيقف بعد ربع قرن في نفس المكان ليُعرف تلاميذ المدارس بمعالم تلك البقعة الأثرية الضاربة في القِدم.

 لم يدر بخَلد التلميذ أحمد عيسى وهو يركض مع رفاق طفولته بين التماثيل الإغريقية بمدينة شحات في الشرق الليبي، أنه سيقف بعد ربع قرن في نفس المكان ليُعرف تلاميذ المدارس بمعالم تلك البقعة الأثرية الضاربة في القِدم.

[ibimage==3091==Small_Image==none==self==null]

في رحلة استكشاف كنوز التاريخ

ففي مارس من العام الحالي – 2012 –، عاد أستاذ الآثار أحمد عيسى فرج إلى مسقط رأسه في إجازة من دراسته الأكاديمية بإنجلترا، ليؤسس مع بعض موظفي جهاز مراقبة الآثار والمرشدين السياحيين، فريقاً لتعريف تلاميذ المدارس بأهمية الآثار والتراث الموجود بمدينة شحات الأثرية (215 كم شرقي بنغازي)، والتي بناها مغامرون إغريق سنة 631 قبل الميلاد وسموها (قوريني).

لعبت ذكريات طفولة مؤسس الفريق دوراً في طرح المبادرة، “في صغري دأب والدي – فني ترميم الآثار – على اصطحابي معه أثناء قيامه بعمليات الترميم، ما طرح في ذهني كطفل أسئلة عديدة عن هذه الحجارة الصماء التي يأتي الناس لزيارتها والتقاط الصور الفوتوغرافية بجانبها، ولم أحظَ بإجابات شافية إلا بعد دراستي لعلم الآثار” ، يستذكر أحمد.

  الصف الخلفي

تقوم فكرة تعريف التلاميذ بقيمة الآثار على مبدأ إشراك المجتمع المحلي في حماية الآثار وجعله شريكاُ في المسؤولية، وهو مبدأ يرى أحمد في حديثه لـ”مراسلون” أنه غائب عن المشهد الأثري في ليبيا.

يقول أحمد “نحن في ليبيا نقبع في الصف الخلفي على صعيد إشراك المجتمع في المسؤولية، هذا إن كان لنا أصلاً تواجد”.

ويوضح “إن الفجوة بين مصلحة الآثار (أعلى هيئة معنية بالآثار في ليبيا) ومراقباتها (فروعها) من جهة، وبين المجتمع من جهة أخرى هي السبب الجوهري في تدهور الاهتمام بالآثار” .

فكرة فريدة

[ibimage==3085==Small_Image==none==self==null]

رمضان الأخواني 

عندما طُرح المشروع على مسؤولي التعليم بالمدينة أبدوا بعض التخوف، يقول رمضان الأخواني مدير مكتب النشاط المدرسي بالمنطقة “كانت لنا مخاوفنا، فالمكتب في طور التأسيس ولا كوادر لدينا، والتلاميذ كانوا يجرون امتحاناتهم الجُزئية (منتصف السنة)”.

ويضيف رمضان الذي تحدث لمراسلون وهو يمسك بيده ملفاً تفصيلياً عن المشروع “خفنا أن لا يستجيب التلاميذ للبرنامج، فالتلميذ الليبي لا يحظى باهتمام يذكر على صعيد النشاطات الرياضية والفنية، فما بالك بنشاط مستحدث كالاهتمام بالآثار”.

ولكن في النهاية رحب المسؤولون بالمشروع لأنه كان “فكرة فريدة من نوعها” بحسب رمضان.

دروس في الهواء الطلق

[ibimage==3097==Small_Image==none==self==null]

محاضرات فيها الترفيه والمعلومة

على الفور تسارعت الخطى نحو التنفيذ، وأعدَّ مكتب النشاط المدرسي جدولاً زمنيا دقيقاً شمل (7) مدارس للتعليم الثانوي، واستهدف التدريب 600 تلميذ من الجنسين، بحيث لا يتعارض مع جداول الامتحانات الجزئية التي تجري في نفس الفترة، فيما تكفل نادي الصداقة الرياضي بتوفير حافلات تقل التلاميذ أثناء الزيارات الميدانية.

ورأى المشروع النور في منتصف مايو، ولمدة شهر تنقل الفريق بين المدارس ليعرض على شاشات عرض محاضرات مبسطة جمعت بين الترفيه وتقديم المعلومة العامة.

تعرف خلالها التلاميذ على صور الإهمال والتخريب التي تتعرض لها المواقع الأثرية كالكتابة على جدرانها والبناء العشوائي ورمي النفايات فيها، في حين اصطحبهم مرشدون سياحيون في زيارات علمية وترفيهية للمواقع الأثرية .

يقول أحمد إن التلاميذ الذين اكتظت بهم قاعات الدرس والحافلات أبدوا استجابة “غير عادية”، كما قدم المعلمون ومسؤولوا التعليم تعاوناً كبيراً، “إنه شعور رائع عندما تحس أنك تساهم في حماية الآثار، و تُحقق نجاحاً لا يمكن وصفه” يضيف أحمد.

فيما لم يتردد رمضان في التأكيد على أهمية هذه الدروس التي استفاد منها شخصياً، ووصف ذلك بقوله “كنا نرى أثارنا بلا معالم، بلا معابد وأسواق وشوارع، أما الآن فقد أدركنا حجم الحضارات التي تعاقبت على هذه البقعة”.

شراكة

محمد بوعجيلة طالب في المرحلة الثانوية متخصص في علوم الحياة، هو ابن المدينة وتربطه علاقة قوية بالمعالم الأثرية التي قضى عمره بينها، يقول محمد لـ”مراسلون”، “لطالما خشيت أن تبقى الشعارات التي كتبها بعض الزوار خلال الثورة على الجدران الأثرية، لقد شوهت تلك الكتابات شيئاً في داخلي، لكن المحاضر طمأنني أنه بالإمكان إزالتها”.

وعبر محمد عن سعادته بما استجد لديه من معلومات حول أهمية الأماكن الأثرية النادرة التي لا تبعد سوى كيلو مترات قليلة عن مقر سكناه، يوضح محمد “لولا الأستاذ المحاضر لما علمت أن معبد زيوس الموجود بمدينتي هو ثاني أكبر معبد في العالم القديم”.

سألنا محمد إن كان يحس نفسه شريكاً في حماية الآثار بعد نهاية المحاضرات، فأجاب “قبل المحاضرات كنت أعتبر أن الآثار تحفة المدينة، أما الآن فأعتبر بقاء المدينة مرتبطاً بحمايتها، كما أن الآثار ثروة قومية يمكن أن تكون بديلاً للنفط”.

وقد بلغ التأثر بمحمد المسجل في كلية الطب حد بذل جهود حثيثة لينتقل إلى قسم الآثار، فبحسب قوله “المستقبل في دراسة الآثار”.

قرار وزاري

هذا المشروع الذي أقيم وأثمر نتائج جيدة بحسب المستفيدين منه، تمكن القائمون عليه من إقناع المسؤولين في قطاع التعليم بالمدينة بأهميته، حيث يرى المسؤولون أنه كان مفيداً ويتطلعون لتكراره هذه السنة.

يقول رمضان الأخواني “سنوسع المشروع ليشمل تلاميذ المستويين الأساسي والمتوسط، كما نخطط لإقامة الحفل الختامي للسنة الدراسية لجميع المدارس بالمسرح الأثري بدل إجراءه في قاعة دراسية مغلقة ككل سنة”.

ولا يُخفي رمضان أمله في أن تتبنى وزارة التعليم المشروع  ” كان لما قمنا به أصداء كبيرة في الوزارة، وأتوقع صدور قرار وزاري ينص على تضمين المناهج فقرات تتحدث عن الآثار”.

ويضيف “اجتمعنا مع مدير النشاط المدرسي بالوزارة وأبدى استعداده لضم المشروع إلى نشاطات الوزارة في كل مدارس الدولة”.  

التلاميذ الذين التحقوا بمقاعد الدراسة للعام الجديد لم يعودوا يعتبرون التماثيل الإغريقية مجرد حجارة صماء، وهي الرسالة التي رغب أحمد بإيصالها إليهم، واليوم سافر أحمد لإكمال دراسته الأكاديمية، فيما يتأهب رمضان الإخواني وزملاؤه للنشاطات المدرسية ولدورة جديدة يتعرف فيها تلاميذ جدد على ماهية الأرض التي يعيشون فوقها.