وسط غابات الصنوبر في المدخل الشمالي لمدينة الكاف (250 كم جنوبي غرب العاصمة تونس) يتربع القصر الأسطوري الذي طالما زود الأهالي بقصص غامضة عن ساسة البلاد ونخبتها الغارقة في اللهو والصفقات. قصص تشبه حكايات ألف ليلة وليلة لم يزل يتداولها الجوار المحيط بالقصر، حتى وإن كان أغلبها من نسج الخيال.

راحة بورقيبة

وسط غابات الصنوبر في المدخل الشمالي لمدينة الكاف (250 كم جنوبي غرب العاصمة تونس) يتربع القصر الأسطوري الذي طالما زود الأهالي بقصص غامضة عن ساسة البلاد ونخبتها الغارقة في اللهو والصفقات. قصص تشبه حكايات ألف ليلة وليلة لم يزل يتداولها الجوار المحيط بالقصر، حتى وإن كان أغلبها من نسج الخيال.

راحة بورقيبة

بالنسبة للكافيّة (سكان مدينة الكاف) فإن البوابة الحديدية الضخمة لقصر الكاف هي الشاهد على عصر كانت فيه مدينتهم مركزا لصنع القرار وطنيا ومغاربيا. في 1962 شيّد الزعيم بورقيبة أول رئيس لجمهورية تونس منتجعا على أنقاض حي عتيق فوق أعلى قمة بالمدينة. وكان الرئيس يرتاده هربا من ضوضاء العاصمة و تلوثها، فجعل منه مكانا استراتيجيا ليس فقط للراحة والاستجمام، بل كذلك للاجتماعات السياسية الهامة.

وكان بورقيبة يستغل وجوده في هذا القصر لاستقبال رجال السياسة وأعيان الجهة ولكن أيضا مسؤولين رفيعي المستوى من بلدان المغرب العربي، في لقاءات غير معلنة.

ومنذ ذلك الوقت أصبح الأهالي يطلقون اسم “قصر الرئيس” على كامل المنطقة المطلة على الكثير من أحياء المدينة و مداخلها،  وأيضا على الحديقة المجاورة، الملاذ الذي تهرب إليه العائلات التي حرمت من الاصطياف بالمدن الساحلية، لاتقاء شر الصيف الحار وللتنعم بجرعة من عليل النسيم القادم من جبال الكاف العالية. لكن النزهة تقف عند حدود البوابة الحديدية التي طالما أوحت للكافية بالكثير من الحكايا.  

كما ان راوبات شعبية عديدة تعزو اختيار بورقيبة هذه المنطقة لبناء قصره إلى وجود مزار ديني مبارك فيها. ويقول أحد قاطني المدينة إن “بورقيبة كان يتبرك بولي صالح هو بومخلوف”، وإن الأخير “كان يلهم الرئيس الحلول”. وهو اعتقاد يرقى إلى مستوى الخرافة بحسب آخرين، بالنظر إلى التراث العلماني الذي أرساه بورقيبة في البلاد ومحاربته كافة المظاهر الدينية. 

أعوان بن علي

منذ  صعود زين العابدين بن علي إلى الحكم، فقد القصر رونقه بل و شعبيته، فقد عرف عن الحبيب بورقيبة أيام ارتياده القصر للتداوي أو للراحة قربه من المواطنين البسطاء وتجوله بين أزقة القادرية وسيدي بومخلوف ورأس العين بكل اريحية و اطمئنان.

“كان للقصر هيبته و جاذبيته، و كنا نحس بنوع من الفخر والسعادة، فبورقيبة رغم تهميشه للجهة كان يزورنا باستمرار وكانت له عدة صداقات وعلاقات إنسانية بالأهالي”، يقول عم الصادق، وهو شيخ في السبعين من العمر.

ولد عم الصادق وقضى حياته بين أزقة مدينة الكاف العتيقة، ويقول إن القصر بعد تنحية بورقيبة في تشرين ثاني/ نوفمبر 1987 “بات مرتعا لولاة الجهة المعينين من قبل الرئيس المخلوع بن علي، يسكنونه ويتمتعون به وينهبون محتوياته”.

ويعتقد الكثير من أهالي الكاف أن ذلك المكان ذو الرمزية التاريخية والقيمة الحضارية، تحول إلى مجرد مقرّ لإيواء ولاة الجهة وإقامة الحفلات والسهرات والولائم التي تجمع السياسيين ورجال الأعمال ونجوم المجتمع المخملي، فيما ترزح المدينة تحت وطأة التهميش.

احتلال القصر

أما بعد الثورة فقد تعالت الأصوات المواطنين بمدينة الكاف احتجاجا على تواصل ممارسات العهد السابق من محاباة و تمييز وعبث بمعالم البلاد وتراثها. وفي هذا الصدد أعرب صلاح الدين العويتي من جمعية صيانة المدينة لـ “مراسلون” عن قلقه بشأن تواصل تهميش الشأن الثقافي والتنموي بالجهة.

ويعتبر العويتي  إن “احتلال” الوالي للقصر التاريخي أمر لا يجوز استمراره، وعلى ملكية القصر أن تعود للشعب التونسي، كأن يصبح مثلا “مشروع ثقافيا أو تنمويا”. كما يؤكد على ضرورة وضع خطة كاملة تقطع مع منظومة التهميش المستمرة في منطقته، حتى بعد الثورة.

أما عادل الخليفي، أستاذ تعليم ثانوي وناشط سياسي بالجهة، فيقول بدوره إنّه قلق أيضا من “المستقبل الغامض لهذا الموروث الوطني الذي يتواصل استعماله كمقر سكني لوالي الجهة في حين يمكن توظيف القصر اقتصاديا و ثقافيا، حتى يعود بالنفع على المدينة”.

ويضيف الخليفي أن مثقفين وناشطين من المدينة، كانوا ثد جمعوا قرابة الألف توقيع في إطار عريضة جهوية لتحويل قصر بورقيبة إلى موقع سياحي وثقافي مفتوح للجميع، جرى تسليمها إلى نواب جهة  الكاف بالمجلس الوطني التأسيسي (البرلمان).

ولا تزال مدينة الكاف تنتظر ردّ المجلس التأسيسي على مطلب الاهالي بترميم قصر الرئيس وتحويله إلى معلم سياحي، المشروع الذي قد يجعل من الكاف مزارا سياحيا ويمسح الغبار عن كثير من القصص والحكايا التي ألفها الكافية حول قصر الرئيس.