كل صباح يرتدي موسى حاجي ميدعته الزرقاء التي فقدت لونها تحت تأثير السنوات الدراسيّة الخمس، ويمتطي حمارا رماديا نحيلا يحثّ الخطى في رحلة الذهاب إلى المدرسة.

في الطريق الترابي الطويل والوعر ترافقُ موسى زوّادته اليومية، وهي عبارة عن كسرات من الخبز اليابس محفوظة إلى جوار كتب مدرسية في كيس قماشي خاطته له أمه من أكياس الحبوب والأعلاف. وبعد أن يقطع مسافة خمسة كيلومترات تنتهي رحلته عند بوابة “مدرسة الحمير”.

المدرسة الأقدم

كل صباح يرتدي موسى حاجي ميدعته الزرقاء التي فقدت لونها تحت تأثير السنوات الدراسيّة الخمس، ويمتطي حمارا رماديا نحيلا يحثّ الخطى في رحلة الذهاب إلى المدرسة.

في الطريق الترابي الطويل والوعر ترافقُ موسى زوّادته اليومية، وهي عبارة عن كسرات من الخبز اليابس محفوظة إلى جوار كتب مدرسية في كيس قماشي خاطته له أمه من أكياس الحبوب والأعلاف. وبعد أن يقطع مسافة خمسة كيلومترات تنتهي رحلته عند بوابة “مدرسة الحمير”.

المدرسة الأقدم

يطلق أهالي المنطقة على مدرسة “مقسم الباب” التي يؤمها موسى اسم “مدرسة الحمير” باعتبار أن هذا الحيوان المحبّب والصبور هو وسيلة النقل الأساسية للتلاميذ الذين يقطنون في القرى المجاورة.

فهناك في أعماق الريف الذي تحاصره قمم الجبال الشاهقة من كل صوب، لا يتوانى موسى ورفاقه عن إيثار بعضهم البعض في التداول على الركوب على ظهور الحمير في أجواء تعلوها بهجة الأطفال. فتتعالى قهقهاتهم، مع كل حادث مفاجئ، مما ينسيهم بعضا من عناء الرحلة.

[ibimage==2770==Small_Image==none==self==null]

CAPTION TEXT

عند بوابة المدرسة الرئيسة، تصطف بضعة حمير ربطها الأولاد إلى جوار بعضها بانتظار أن يفرغوا من حصصهم الدراسية ويعودوا إلى المنزل. أما في الداخل، فتشير لافته معلقة على أحد الجدران إلى أن هذه المدرسة هي المركز التعليمي الأقدم في جهة حاسي الفريد التابعة لولاية  القصرين (350 كلم جنوب غرب العاصمة تونس)، إذ إنها احتفلت قبل أشهر بمرور خمسين عام على تشييدها.

ويقول موسى الذي لم يعتد رؤية الغرباء إنه يستيقظ حوالي الساعة الخامسة صباحا للوصول إلى هنا، ويضيف “أريد أن أصبح مهندسا معماريا”.

لا استطيع مسك القلم

جواهر حاجي، التلميذة بالفصل الرابع، تقطع هي الأخرى مسافة ثمانية كيلومترات يوميا وهي تركب “حافلتها المحبوبة” للوصول إلى المدرسة، وحلمها الكبير أن تصبح طبيبة في مستشفى القرية لإسعاف ومعالجة المرضى.

لكن جواهر تضطر في أحايين كثيرة إلى الانقطاع عن الدروس بسبب فيضان الأودية وتساقط الثلوج. كما أنها تشتكي من البرد القارس وتقول “لا أستطيع مسك القلم في أيام الشتاء وهو ما يعرضني لعقاب المعلم”.

من جهتها لا تخفي المعلمة شيماء الزيتوني إعجابها بإصرار تلاميذها على تحدي الصعاب من أجل إكمال تعليمهم. وتؤكد تعرض حياتهم للخطر أحيانا بسبب الظروف المناخية القاسية، وتهديدات الثعابين والحيوانات البرية. وتستدرك المعلمة قائلة إن “استعمالهم للحمير، ذهابا وإيابا، يساعدهم على تجنب أخطار عديدة”.

مدرسة النجباء

ومن المفارقات أن “مدرسة الحمير”، التي قد يوحي اسمها الشعبي بالغباء وبلادة الذهن، أنجبت العديد من الكوادر في مجالات مختلفة.

ويقول الصحفي خليل حاجي، 25 سنة، إنه ما يزال يستحضر الذكريات التي أمنتها له “حافلته” الخاصة طيلة السنوات التي قضاها بالمدرسة.

ويضيف خليل لـ “مراسلون” أنه أصيب، مثل العديد من تلاميذ المدرسة بأمراض وجروح شتّى خلال الطريق، لكنه استطاع كسر جميع الحواجز وتحقيق النجاح.

أما صويلح حاجي، وهو ممرض مساعد تجاوز العقد الثالث من العمر، فيستعيد في حديثه لـ “مراسلون” أيام الدراسة “عندما كانت تتبلل ملابسنا وكتبنا عند نزول الأمطار في رحلتنا الطويلة”. ويضيف مقهقها إن “للحمير فضلٌ لن ننساه ما حيينا في حصولنا على الشهادة”.

مدرسة “الحمير” تضرب

ولئن كانت ذكريات خليل وصويلح مفعمة بالحنين إلى زمن الدراسة، إلا أن تلاميذ اليوم، وخصوصا بعد الثورة، يطالبون بحافلة حقيقية من عجلات مطاطية ومحرك يعمل على البنزين،  تؤمن نقل التلاميذ والمربين من وإلى المدرسة بزمن لا يتجاوز الثلاثين دقيقة.

وكان الأهالي قد نفذوا اعتصاما لمدة 15 يوم وشاركت فيه مدرستا “الدخلة” و “السودان” المجاورتين لمدرسة “الحمير”. ونادى المعتصمون بحزمة مطالب إلى جانب تأمين وسائل النقل، منها إنشاء مدرسة إعدادية ومعهد ثانوي بالجهة وتحسين الخدمات الطبية. علما أن عدد المرسمين في المعاهد الثانوية والإعدادية من أبناء المنطقة بلغ نحو 700 طالب.

ويقول خليل صوالحية، مدير المدرسة، إن هذا الإضراب جاء على خلفية “التهميش والإقصاء الممنهج الذي تعرضت له تلك المناطق والتي مازالت تئن تحت نير الفقر المدقع”.

وتابع أن مدارس هذه القرى النائية “تنجب العديد من كوادر الدولة رغم انعدام الامكانات وظروف النجاح فيها، وهي تستحق أكثر من لفتة انتباه”.

أما بوعلي هنشيري، وهو معلم في المدرسة، فأكد على ضرورة تهيئة الظروف الملائمة للمعلمين مشيرا إلى أنه يقطع مسافة تقدر بـ 14 كيلومترا يوميا على دراجته النارية بسبب غياب وسائل النقل.

مدرسة “الحمير” محظوظة!

وفي معرض الرد على مطالب الأهالي يقول مسؤولون حكوميون أن الوضع في الأرياف وخصوصيات المنطقة التي تتسم بتشتت سكانها تجعل من الصعب وجود حل ناجع لمشاكل للنقل.

ويوضح منصف القاسمي، مدير مساعد بالمندوبية الجهوية للتربية بالقصرين، إن كل تلميذ “يحتاج عمليا إلى حافلة خاصة به بسبب توافد التلاميذ من مناطق متعددة ولتشتت السكان”.

بل إن القاسمي وصف المدرسة “بالمحظوظة” التي يتوفر فيها “إطار تربوي كامل ولا تشهد شغورا مثل بقية المدارس في القصرين”.

أما محمد صالح الخلفاوي، رئيس مصلحة تجهيز المدارس الابتدائية والمعاهد الثانوية، فوعد من جهته “بتنفيذ خطة لصيانة المدرسة وتجديد تجهيزاتها بحواسيب”، كنوع من الاستجابة ربما لبعض مطالب الاعتصام.

وإلى أن تجترح الحكومة حلا لأزمة النقل، تتواصل رحلة موسى وجواهر في طرق الفلاحة الوعرة، فيما يتضاءل صبرهم شيئا فشيئا وكذلك صبر حميرهم النحيلة المتعبة.