الجميع يعرفُها ويُناديها “عاشور”، بمن فيهم عجائز المدينة القديمة اللاتي يحببنها ويرغبْن حديثها العفوي الظريف، وطالما نهرن أطفالهن عن مناداتها “عمتي” نزولا عند رغبتها، فهي تحب اسم “عاشور” وقلّما سألها أحد عن اسمها الحقيقي، حتى كادت تنسى أنوثتها.

من ركنها المعتاد حيث تجلس كل صباح تحتسي قهوة “المكياتة” بجانب مقهى “العم مسعود” بالباب الجديد، تشير بسمة، 37 عاماً، إلى مفارش الباعة المتناثرة على الساحة الإسمنتية خارج أسوار المدينة القديمة بطرابلس، وتقول “لاأدري متي وجدتُ نفسي مع هؤلاء”.

الجميع يعرفُها ويُناديها “عاشور”، بمن فيهم عجائز المدينة القديمة اللاتي يحببنها ويرغبْن حديثها العفوي الظريف، وطالما نهرن أطفالهن عن مناداتها “عمتي” نزولا عند رغبتها، فهي تحب اسم “عاشور” وقلّما سألها أحد عن اسمها الحقيقي، حتى كادت تنسى أنوثتها.

من ركنها المعتاد حيث تجلس كل صباح تحتسي قهوة “المكياتة” بجانب مقهى “العم مسعود” بالباب الجديد، تشير بسمة، 37 عاماً، إلى مفارش الباعة المتناثرة على الساحة الإسمنتية خارج أسوار المدينة القديمة بطرابلس، وتقول “لاأدري متي وجدتُ نفسي مع هؤلاء”.

كل ما تتذكره أنها جاءت إلى المدينة القديمة بعد أن تركت المصيف الذي قضت فيه سنوات تتعلم فنون الغطس بعد فرارها من بيت عائلتها غربي طرابلس.

خارج سور الباب الجديد حيث ينتصب فجر كل يوم “سوق العتق”، الشهير بخليط أجناسه وأرواحه المهمّشة وبضائعه الرخيصة المستعملة، والثمينة التي غالبا ماتكون مسروقة، تقضي  بسمة قسطا من النهار بين مسارب وزوايا السوق، تجالس الباعة والمرتادين، تشاركهم الضحك والسُخط والسّباب، قبل أن تعود أدراجها إلى وكالة فندقية اتخذتها سكنا لها.

أسوار حياتي

تقول بسمة إن حياتها كلها أسوار، بدءاً باسم “عاشور” الذي لازمها منذ الصغر، مروراً ببيتها الذي تركته بعد سنة من وفاة والدها وقبل أن تبلغ الثالثة عشرة من عمرها، حتى سور المدينة القديمة حيث تعيش في وكالة فندقية غير مرخّصة، ومنها إلى السجن الذي لا تتذكر كم مرة دخلتُه.

وتضيف “خرجتُ من سجن “الجديّدة” ضمن أفواج المساجين الذين أفرج عنهم القذافي، بعد أن جنّد أخطرهم في كتائب القتل التي حارب بها الثوار في أحياء طرابلس”.

بسمة التي رفضت الانضمام إلى مرتزقة الكتائب بعد خروجها من السجن بداية الثورة، وبالرغم من تفاؤلها، ماتزال تعيش كابوس طفولتها الذي أجبرها حسب قولها على ترك البيت والعيش بين أسوار السجون وهوامش المجتمع.  

فاجعة طفولتي

تقول بسمة “بعد وفاة أبي بأقل من سنة تعرضتُ لحادثة أرغمتني على ترك البيت، وبالرغم من كوني بنت صغيرة في ذلك الوقت إلا أني لم أرهب صحبة الأولاد من أقراني، فقد كنت منذ طفولتي أفضّل رفقتهم على بنات جنسي، وكثيراً ماكنت أجاور أبي في مجالس أصدقائه، أمثّل دور الصبي من حيث لاأعلم”.

بسمة لم تمهلني وقتا حتى أسألها عما أجبرها على ترك أمها وإخوتها حيث مضت تقول “استيقظت ذات ليلة على جسدٍ ثقيل يعتلي صدري، ولما استعدتُ صحْوي اكتشفتُ بأنّه خالي يُحاول اغتصابي”.

وبمرارة الوجع قالت وهي تنفثُ نفساً عميقاً من سيجارة “رياضي” الليبية الغنية بالنيكوتين، “بالله عليك أجّل الحديث إلى وقت آخر”، والتفتت إلى صبي جاءها يجري من ركن المقهى المجاور، ففرحت به وقبّلته على الفور وأجلسته بقربها، بدا لي أنها تحبه بشغف فاستأذنتها في التقاط صورة لهما فلم تمانع.

الفرار إلى الحارة

في زمن القذافي المدجّج برجال الأمن الداخلي والعسس والمخبرين، أصبحت “الحارة” كما يُطلق علي المدينة القديمة بطرابلس، مقصد الكثير من الليبيين والعرب والأفارقة الذين وجدوا فيها ملجأ إثر خروج عدد كبير من سكانها الأصليين وتركهم لها سبعينات القرن الماضي.

كما نزح إليها عدد غير قليل من أرباب السوابق والفارّين من السجون والأحكام، وتجار الحشيش، والمنبوذين والمجانين، و حتى البنات الهاربات من بيوتهن ومدارسهن وجدن في أوكارها المزروعة بين خراباتها وفي أزقتها المتطرّفة، مايضمن لهن العيش وفق شروط هويتها الجديدة الخارجة عن الآداب والقانون.

تقول بسمة عن طبيعة العيش بين جدران موبوءة “الحياة قاسية.. أشفق على الفقراء الذين لا ملجأ لهم سوى الخرابات التي اتخذوها مجبرين سُكنى لهم”، وتتساءل كيف سيكون حال ومستقبل أطفالهم. وتضيف “صحيح أنا لست مناضلة كما يقال عن النساء الثوريات لكنني لست أقل منهن وطنية. يكفي أني منحازة للبسطاء. أنا صاحبة مبدأ وكنتُ أسبُّ القذافي في عز بطشه وجبروته”.

وتعلّق علي نفسها ضاحكة ” قد أكون مناضلة ومجرمة، لاتهمني التسميات.. الأفعال بالنسبة لي هي الأبقي والأصلح”. 

أمومة مستحيلة

اللافت في بسمة أنها خصصت ماتركه لها أبوها من مال وعقار لمساعدة أهلها والفقراء ولم تلتفت لنفسها. حتى أختها الصغرى التي جاءت إليها قبل أيام تستأذنها في الزواج لم تتركها تعود إلا بعد أن حرّرت لها صكّا بخمسة آلاف دينار مُوصية إيّاها بسرعة الإنجاب.   

“أُحب الأطفال وأفضّلهم علي نفسي” هكذا لخّصت أحلامها وهي تبتسم مفصحةً عن حلمِ أُمومةٍ مستحيل يسكُنُها.

بسمة التي تركت ضفائرها وحقيبة المدرسة علي عتبة بيتها قبل خمسة وعشرين سنة لاتختلف عن “عاشور” العربيد الذي تلبّسته ولبِسها في شيء فكلاهما يعيش في قميص الآخر تجمعهما روح تمرد واحدة.

تقول “قد أكون متمردة ومنحرفة وخارجة عن القانون لكني لست لصّة أو شاهدة زور أو  قوّادة”. وهي تمضي في عنادها مؤكدة “لايهمني ما سيجُرّه لساني من مصائب. أنا لم أخف زمن  القذافي ولن أخاف في زمن غيره”.

وبالرغم من ثقة بسمة في زوال نظام القذافي بلارجعة إلا أنها تؤمن بأن هناك من لايريد للبلاد أن تعيش في أمن وسلام ولهذا لم تتردد في أن تقول “ليبيا تعيش مؤامرة من الداخل” وركنت إلى الصمت بلا تفسير لقولها.

أنا لست مجرمة

اختلفت آراء من يعرف بسمة أو “عاشور” تحديدا، وتباينت قراءاتهم لشخصيتها إلا أنهم أجمعوا بلا تواطؤ علي طيبتها وأمانتها وصدقها مستثمرين كل الأعذار التي تبرر سُكرها وعربدتها أحيانا.

تقول بسمة عن نفسها “كنت أسُبُّ النظام فيما رجاله يحسبوني مشرّدة مجنونة لن تشكّل عليهم خطرا ولهذا السبب نجوتُ من مداهمات الأمن الداخلي، فلولا السُكر لكنتُ من ضحايا  أبوسليم”. 

وتضيف “كم من مرة حاول الصحافيون استدراجي للحديث إليهم عند زياراتهم للسجن زمن القذافي. كنت أرفض لأني أعرف أنهم سيكتبون عنا: عاهرات فاسدات”.

 وقبل أن تتركني وتختفي في زحام السوق ختمت حديثها قائلة “أنا لست مجرمة ومعظم سوابقي مُشاجرة وغالبا ماتكون مع رجال الشرطة والحرس البلدي ممن يسترزقون علي الوشاية والرشوة. أنا أكرههم ولا يهمني ما سيحدث لي”.