في إحدى غابات واحة السلام يجلس الشيخ المنصف كيلاني بن توهامي، 65 سنة، أمام كوخه وسط النخيل المغطّى بالغبار الأسود، يغرق بين الفينة والأخرى في نوبات سعال بالكاد تتوقف.

هذا الرجل حاله كحال معظم فلاحي المنطقة هنا، خسر جزءا كبيرا من مورد رزقه بعد تضرر غابات النخيل.

في إحدى غابات واحة السلام يجلس الشيخ المنصف كيلاني بن توهامي، 65 سنة، أمام كوخه وسط النخيل المغطّى بالغبار الأسود، يغرق بين الفينة والأخرى في نوبات سعال بالكاد تتوقف.

هذا الرجل حاله كحال معظم فلاحي المنطقة هنا، خسر جزءا كبيرا من مورد رزقه بعد تضرر غابات النخيل.

[ibimage==2585==Small_Image==none==self==null]

 الشيخ المنصف كيلاني بن توهامي

ويقول أن مصانع المجمع الكيميائي التي تنفث غازات سامة  “تعتمد في انتاجها على 75 بالمائة من مياه العيون الطبيعية وهو ما تسبب في أضرار بيئية كبيرة لأراضي الفلاحين وأشجارهم”.  

الواحات المتميزة والفريدة من نوعها في مدينة قابس (400 كلم جنوب شرق تونس)، التي تقع على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، كانت قد شهدت أواسط السبعينات نقطة تحول بيئية.

فبعد تشييد مصانع المجمع الكيميائي على طول الشريط الساحلي لخليج قابس فقدت المسطحات المائية جزءا من مساحتها واختل التوازن البيئي فيها، إضافة إلى إصابة عدد كبير من سكان الواحات بأمراض خطيرة على غرار السرطان والربو وهشاشة العظام.

مصنع كيميائي بجوار الواحة

يؤكد الشيخ بن توهامي الذي يلقبه أهالي الواحة بـ”بوعود”، وهو اللقب الأصلي لعائلته،  أن العمل في قطاع الفلاحة قبل تركيز مصانع المجمع الكيميائي كان يدر على الأهالي رزقا واسعا خاصة على مستوى إنتاج الفلفل والرمان والتمر، وهي منتوجات صار غير مرغوب في زراعتها اليوم بسبب عدم قدرتها على تغطية مصاريف إنتاجها.

ويتذكر “بوعود” أن تشييد منطقة صناعية خلال فترة السبعينات لقي ترحيبا كبيرا من طرف أهالي الجهة، ففي ذلك الوقت “ساهم المجمع في تشغيل أبناء المنطقة والحد من البطالة المنتشرة”.

لكن مع مرور الزمن بدأت تظهر مشكلات بيئية ناتجة عن إفرازات المصانع وخاصة مصنع معالجة الفسفاط الذي استمر على امتداد العقود الماضية في إلقاء كميات من مادة “الفسفوجيبس” في مياه خليج قابس تصل يوميا إلى حدود 15 ألف طن.

ويقول عبد العزيز بن عيسى،43 سنة، أحد سكان الواحة، إن ثلاثة من جملة أبنائه الخمسة يعانون منذ ولادتهم من مرض الربو الذي يتسبب فيه غاز “الأمونياك” من مصانع المجمع.

وبعد تضرر الأرض التي تعود ملكيتها منذ عقود إلى والده ، فكّر عيسى في تحويل طابعها إلى عمراني، وهو الحل الذي اعتمده أيضا أكثر من ثلثي أهالي الواحة الذين لم يقدروا على المطالبة بتعويضات قبل الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد التونسية أواخر سنة 2010، وانتهت في 14 كانون الثاني/ يناير2011 بإسقاط النظام.

ناقوس الخطر

ويتواصل غياب أرقام ونسب رسمية صادرة عن مصالح وزارة الصحة التونسية حول إصابة أهالي قابس بصفة عامة وواحة شاطئ السلام بصفة خاصة بأمراض خطيرة ومزمنة ناتجة عن التلوث، حتى بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 تاريخ تحرر الإدارة التونسية من استبداد نظام الرئيس بن علي.

وفي هذا الصدد يقول محمد بن عثمان، طبيب، في تصريح لموقع “مراسلون” :”إن اللجنة الجهوية للصحة والسلامة المهنية أجرت سنة 1993 تحاليل متنوعة وصور بالأشعة لأكثر من 1200 شخص من أهالي الواحة لمعرفة نسبة “الفليور” في الجسم فكانت النتائج سلبية لأكثر من 60 بالمائة من الخاضعين لهذا الاختبار الطبي وهو ما تطلب دق ناقوس الخطر باعتبار أن هذه المادة تسبب امراضا عديدة كضيق التنفس وهشاشة العظام والسرطان والأمراض الجلدية”.

ويشير بن عثمان إلى أن من الصعب تحديد نسبة المواطنين المتضررين من التلوث في قابس ونوعية الأمراض التي يعانون منها.  والسبب بحسب قوله “هو تهرب السلطات التونسية من القيام بعمليات كشف طبي وإحصاء رسمي يتعلق بالموضوع تجنبا لردود فعل الرأي العام الوطني والدولي”، خاصة أن تونس وقعت سابقا اتفاقيات وبرتوكولات دولية كاتفاقية لندن سنة 1973 واتفاقية برشلونة سنة 1976 المتعلقتين بحماية حوض البحر الأبيض المتوسط من التلوث بأنواعه والتعاون للتصدي للتلوث البيئي من أجل حماية سكان المناطق المجاورة للمصانع الكيميائية.

وفي نفس الإطار طالب الإتحاد الجهوي للشغل (فرع من الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر نقابة ممثلة للشغالين) بعد انتخابات المجلس التأسيسي الوطني الحكومة الحالية بإجبار الإدارة العامة للمجمع الكيمائي التونسي على بعث مصحة مختصة في الكشف المبكر لأمراض السرطان بمختلف أنواعه تتميز بتقديم خدماتها مجانا لفائدة أهالي واحة شاطئ السلام إلى جانب تمكنيهم من تعويضات مادية وتشغيل أبنائهم من خلال المساهمة في تطوير منظومة التنمية الجهوية بعد فقدان موارد رزقهم على مستوى المجالين الفلاحي والصيد البحري.

في طريق الاندثار

وأثبتت دراسة أعدتها “جمعية صيانة واحة شاطئ السلام”، أن الواحة شهدت خلال الـ40 سنة الأخيرة اندثار أكثر من ثلثي العدد الإجمالي للنخيل، وانتشار الأمراض المرتبطة بالتلوث في المناطق الأقرب للمنطقة الصناعية.

[ibimage==2591==Small_Image==none==self==null]

جمال الواحة

وجاء في ذات الدراسة التي شارك في إعدادها خبراء مختصون في مجالات الكيمياء الصناعية والبيئة وسلامة المحيط أن الواحة سجلت انخفاضا حادا على مستوى التنوع البيولوجي، واندثرت عديد الأصناف النباتية والحيوانية.

ففي سنة 1956 كانت الواحة تحتضن أكثر من 250 نوعا ليتراجع هذا الرقم إلى أقل من 55 في العام 1990، تاريخ إجراء آخر عملية إحصاء رصدتها الجمعيات البيئة الوطنية والدولية.

وفي هذا الصدد أفاد رئيس الجمعية السيد نادر شكيوة لموقع “مراسلون” أن الاستجابة الفورية للمقترحات المقدمة من طرف المجتمع المدني وأبرزها إيقاف كل أشكال التلوث واحترام القوانين البيئة الدولية ووقف الاستغلال المفرط للمياه الجوفية وإنشاء مرصد لرصد نوعية الحياة وسلامة البيئة والمساهمة في منظومة الاقتصاد الاخضر، بالتوازي مع التسريع في إعادة البناء البيولوجي في المنطقة بإقامة محميات طبيعية، تعتبر الحلّ الوحيد لإنقاذ ما تبقى من واحة شاطئ السلام وتراث أجيال تعاقبت على العيش فيها.

ورغم التصريحات المطمئنة الصادرة عن المسؤولين الحكوميين حول تعهد إدارة المجمع الكيميائي التونسي بالحد من مظاهر التلوث في الجهة وجبر الأضرار الصحية، مازال أهالي الواحة يعيشون على أمل تحقيق حلمهم بإعادة مشهد جماليتها وديناميكيتها التجارية والسياحية.