عمدت الدولة الليبية إلى جعل محاكمات كبار موظفي نظام القذافي علنية أمام الشعب الليبي، لتهدئة وترويض غريزتي الانتقام والحقد اللتين بدأتا تسيطران بشكل واضح على الحياة اليومية لليبيين، بنقلها عبر القنوات الفضائية التابعة للدولة.

وظهر أمام الناس وكأن ليبيا بلد متحضر بشكل يضاهي كبريات الدول، بدءاً من إنزال المتهمين من سيارات تحمل شعارات الشرطة القضائية، محاطين برجال شرطة رسميين يرتدون زيا حكوميا رسميا، وانتهاءً بشكل القاعة وقفص المتهمين، ودخول وخروج القضاة من وإلى قاعة المحكمة.

عمدت الدولة الليبية إلى جعل محاكمات كبار موظفي نظام القذافي علنية أمام الشعب الليبي، لتهدئة وترويض غريزتي الانتقام والحقد اللتين بدأتا تسيطران بشكل واضح على الحياة اليومية لليبيين، بنقلها عبر القنوات الفضائية التابعة للدولة.

وظهر أمام الناس وكأن ليبيا بلد متحضر بشكل يضاهي كبريات الدول، بدءاً من إنزال المتهمين من سيارات تحمل شعارات الشرطة القضائية، محاطين برجال شرطة رسميين يرتدون زيا حكوميا رسميا، وانتهاءً بشكل القاعة وقفص المتهمين، ودخول وخروج القضاة من وإلى قاعة المحكمة.

لكن كثيرا من الناس في شتى أنحاء ليبيا لم يقنعهم هذا الديكور والشكل غير الحقيقي في كثير من مضامينه، لأنهم يعلمون أن سلطة القضاء معطلة في كثير من المدن الليبية، لأسباب مختلفة، قبلية؛ أيدولوجية؛ وغيرها مما هو معروف لرجل الشارع.

وبالتالي لم تنجح أولى رسائل الدولة داخليا وخارجيا بزعمها القدرة على توفير محاكمات عادلة ليس فقط بين ردهات محاكم طرابلس العاصمة، بل في محكمة جزئية أو ابتدائية في أي مكان بليبيا.

إذ في الوقت الذي يظهر فيه المتهمون بملابس نظيفة وذقون محلوقة، يعلم الجميع الانتهاكات الجسيمة التي تقع بحقّ كل متهم بالتعامل مع نظام القذافي، وكأننا بشكل أو بآخر نعكس صورة ممارسات نظام القذافي في مرآة السابع عشر من فبراير الجديدة.

جدلية الجزء والكل

في ثقافتنا المحلية نناقش دوما أفكارا عديدة متعلقة بالشأن العام بدون ضوابط جادة تؤهلنا لرفع مستوى الأداء العام عبر المشاركة. فمثلا نتحاور حول أهمية بناء مؤسسة ما أو وزارة ما، وذلك بجلب شخص ما، سياسي؛ أو تكنوقراط؛ أو غيرها من الصفات لإدارة هذه الوزارة أو تلك المؤسسة.

ونعتقد جازمين أثناء هذه المحاورات أن هذا هو الحل الأمثل لكثير من عقدنا الثقافية والتاريخية والاجتماعية، وذلك باعتماد سياسة التجزئة دون النظر إلى الدولة كوحدات متكاملة شكلا ومضمونا، بحيث إذا فقدنا الحوكمة والترشيد في مؤسسة ما أو وزارة ما سنفقدها بالتالي في أغلب السياقات المرتبطة بها.

ولذا اقول إن إصلاح القضاء وتأهيله لأداء مهمة ترسيخ العدالة يرتبط أساسا بتأهيل كل مرافق وقطاعات الدولة المرتبطة به أو غير المرتبطة عضويا ووظيفيا. إذ إن ضعف بل وشلل المؤسسات المعنية بفرض الأمن وبسط نفوذ وسلطة الدولة، سيكون خنجرا مسموما في ظهر العدالة المنشودة.

كذلك يمكننا القول إن عدم وضوح هوية الدولة وتبنيها لنظام وشكل حكم محدد يؤثر بشكل كبير على مرفق القضاء ورضوخه إلى أشكال متعددة من الثقافات القانونية الملونة وغير المرتبطة بما يسميه رجالات القانون بنظام عام يحدد الخطوط العامة والعريضة ويضبط قواعد الأداء.

وبالتالي ستصبح العدالة الجديدة مجرد وهم غير متجذر في مجتمع لم يستطع إلى الآن أن يجري حواراً سلميا حقيقيا حول عقده الاجتماعي ونظامه السياسي.

في ظل فقدان هوية إعلام، وفساد اقتصاد، وسيطرة مليشيات، ونظام صحي اقرب للانهيار، وشلل في مرافق الدولة، تقف ليبيا كلها على حافة مصطلح الدولة الرخوة على الأقل، إن لم تكن الفاشلة، ما يجعل المطالبة بنظام للعدالة ضرباً من الوهم فقط.

المحامون مشكلة أم حل؟

من القواعد المعروفة في علم المحاكمات الجزائية والجنائية والمتفق عليها عالميا، عدم جواز انعقاد هيئة المحكمة بدون حضور محام للمتهم في الجناية المتهم فيها، وذلك لتحقيق قدر من التوازن في المحاكمات، خاصة وأن العقوبات التي نُص عليها في الجنايات غالبا ما تتميز بالقسوة وسلب الحرية لمدد طويلة نسبيا.

عند بدء محاكمة رموز النظام السابق توجب على هيئة المحكمة تعيين وتكليف محام للدفاع عنهم، وعندما تبرع أحد المحامين للدفاع عن مدير جهاز الأمن الخارجي السابق أبو زيد دورده، أقام المحامي عمر الحباسي الناطق السابق باسم هيئة النزاهة والوطنية (مكتب الاتصال باللجان الثورية الجديد بالمعنى الفبرايري) الدنيا ولم يقعدها، وطالب المحامين بمقاطعة محامي الدفاع عن أبو زيد دورده.

وهكذا بسبب هذه الحملات التي تصطبغ بألوان سياسية لا قانونية تم تأجيل جلسة محاكمة متهم آخر بسبب عدم وجود محام للدفاع عنه.

وفي مجتمع كالمجتمع الليبي بما يحمله من إرث ثقافي مستمد من نظام القذافي، وعادات وأخلاق قبلية تستمد أصولها من معاني الفحولة وضروب الرجولة، سيصعب القول بأن تبرع محام أو تكليف هيئة المحكمة لمحام يدافع عن أي رمز من رموز النظام السابق هو من ثوابت تحقيق العدالة الجنائية، في مجتمع تكسحت فيه كل أصول العدالة بمعناها القانوني والفلسفي.

المحامون كانوا جزءا من منظومة فساد كبيرة عمت أوصال الدولة الليبية إبان حكم القذافي وساهموا في إفساد ذمم الجهاز الحكومي والقضائي، حتى الذين كان لهم نشاط سياسي شبه معارض لبعض أساليب النظام السابق عندما مارسوا مهنة المحاماة خضعوا في هذه الممارسة لقواعد اللعبة السابقة.

إن ما يطعن في عدلية محاكمة هؤلاء هو موقف المحامي الذي يلعب دور المناقص والمزايد، وينظر خلفه لضغط الشارع لكسب الشهرة، ولا ينظر لقواعد العدالة التي تتجاوز حدود المهاترات السياسية.

استقلال القضاء

أمام القضاء الليبي مهمة عسيرة بالنظر إلى ضغط شارعٍ ما زال يتعايش مع حالة الثورة بما تعنيه في بعض الأحايين من تجاوزات، فهل سيحاكم القضاء الليبي رموز نظام القذافي على مجرد انتمائهم لهذا النظام، وبالتالي يقع في نفس خطأ النظام السابق، ويصبح مجرد الانتماء والهوية السياسية هي العنوان الأبرز في تصفية خصوم الأمس؟

أم أن هذا القضاء سيكتفي بمحاكمتهم على جرائم الأموال والدماء فقط التي ارتكبوها قبل وأثناء ثورة السابع عشر من فبراير؟

ثم لو فرضنا جدلاً هل سيستطيع أن يحكم القضاء ببراءة أحدهم في حال عدم ثبوت ارتكابه لجريمة أموال أو دماء، ولن يخضع القاضي إلا لصوت ضميره القانوني والمهني؟

وهل سيضحي القاضي الليبي برموز النظام السابق باعتبار أن لا مدافع عنهم الآن بعد سقوط سطوتهم ونفوذهم السابق، خوفا من سخط الشارع الذي يترجم سخطه في كثير من الأوقات إلى سفك دماء وقتل دونما اعتبار لقواعد العدالة الجنائية؟.

شخصيا أتوقع صدور أحكام متفاوتة بين الإعدام والسجن بمختلف مدده على كبار القيادات الأمنية والعسكرية أو ما يُسمون برجال خيمة العقيد، وكذلك على كبار موظفي النظام السابق، تجنبا لأي سخط شعبي قد يقلب الطاولة المحطمة أساسا والهشة على رؤوس الجميع.

وسيجعل هذا ليبيا في حال حدوثه محل انتقاد وتندر واسع من قبل المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وهذا مما قد يدفع كثيراً من الدول المُطاَلبة بتسليم متهمين بارتكاب جرائم إلى مراجعة نفسها قبل التسليم تحسبا لأية انتقادات دولية وإقليمية ومحلية، مع أن الغالب في عملية تسليم المتهمين هو الصفقات السياسية، كما أُشيع عن صفقة تسليم مدير جهاز المخابرات السابق عبد الله السنوسي مع موريتانيا.

المسألة شديدة التعقيد والصعوبة في مرحلة انتقالية أصبح العنوان الرئيس فيها ضعف مؤسسات الدولة وتغول المجتمع بكل أطيافه السياسية والعقدية.

توصيات أولية

إن تحقيق أكبر قدر من العدالة وبسطه على الواقع يتطلب جهدا كبيرا من مؤسسات الدولة والسياسيين ورجال القانون وكذلك تغيير الثقافة الاجتماعية السائدة؛ كما يتطلب تحقيق الاستقلالية القضائية بعيدا عن تدخل الدولة وسلطتها التنفيذية وضغط  جماعات لا تملك إلا السلاح كوسيلة أساسية في ممارسة هذا الضغط.

وكذلك لا بد من ترسيخ الإيمان بأن العدالة مع الخصوم السياسيين أولى مبادئ الديمقراطية الحديثة، والإيمان بأن القضاء الليبي هو المناط بالعدالة الانتقالية وتوجيه الخصومة للدولة وإبعاد الأفراد عن اقتضاء حقوقهم بقوة السلاح.

أما القضاة فيقع عليهم بذل جهد كبير لترسيخ معايير المهنية القانونية، والتي يبدو أنها ضعيفة لدى كثير من المطلعين على أحوال القضاء الليبي، وعلى الدولة تهيئة مُناخ ملائم لترسيخ الضمانات القانونية والقضائية للمتهمين أيا كانت درجة مساهمتهم مع النظام السابق.