تدهور الوضع الأمني راجع في اعتقادي لعدم قدرة المتقلدين لزمام الأمور في الدولة وضع رؤية أمنية واضحة تنبثق عنها خطة قصيرة المدى وبعدها أخرى طويلة المدى تكون حجر الزاوية لعملية استتباب الأمن الذي يشكل القاعدة الأرسخ لنهوض الدولة ومؤسساتها.

تدهور الوضع الأمني راجع في اعتقادي لعدم قدرة المتقلدين لزمام الأمور في الدولة وضع رؤية أمنية واضحة تنبثق عنها خطة قصيرة المدى وبعدها أخرى طويلة المدى تكون حجر الزاوية لعملية استتباب الأمن الذي يشكل القاعدة الأرسخ لنهوض الدولة ومؤسساتها.

ومع استنشاقنا لعبق الحرية المنعش بعد سنين عجاف كابدنا فيها مرارة الكتمان على مضض تحت حكم مستبد، وسريان ثقافة الاعتصامات والاحتجاجات والإضرابات في مرافق الدولة المدنية والعسكرية، وتكدرها بأهواء المتسلحين بها مما جعلها تمثل حالة من الفوضى والانفلات، إضافة إلى اختلاف الرؤى والتوجهات والأيديولوجيات من فصيل لآخر ومن جهاز إلى جهاز، مما أدى بالمواطن لأن يكون رهينة أناس أنيطت بهم مهمة أمنه وحمايته هذا من جهة، والساسة المنشغلين بتحصيل المنافع الجهوية والأيديولوجية والشخصية من جهة أخرى.

إيغال في الفوضى

وكامتداد طبيعي لهذه الحالة الفوضوية، بتنا نرى سلوكيات أكثر إيغالاً في المصلحية والابتزاز من مثل ميليشيات تابعة لشخصيات سياسية مرموقة تسهر علي حمايته وتأمينه بكل السبل حتى غير القانونية منها. وأخرى تقتحم مطاراً وتشل الحركة الجوية للدولة مع ما لمثل هذا التصرف من عواقب وخيمة – اقتصاديًا وسيادياً – في سبيل حل مشكلة بينها وبين غيرها.

بل وصل الحال إلى الاعتداء علي مجلس الوزراء والمصارف العامة، والتعدي على شخص رئيس الوزراء وإرغامه على توقيع صكوك صرف لمستحقات مالية.  ناهيك عما يتعرض له المواطن من اعتداءات وانتهاكات شخصية صارخة قد يكون لها انعكاسات مخيفة على السلم الاجتماعي، والانزلاق نحو احتراب أهلي لا قدر الله.

والأكثر مرارة ما رأيناه من انسحاب قوات تابعة للداخلية من الطرقات وامتناعها عن حماية المؤسسات كالمستشفيات والمصارف وغيرها لأسباب كثيرة كالخلاف حول الصلاحيات الأمنية بين الأجهزة بعضها بعضاً، وأخرى راجعة لتقصير مباشر من الوزارة في عدم الإيفاء بمستحقات العاملين تحت مظلتها، إضافة إلى عدم إتمام العقود القاضية بإضفاء الشرعية على  المنتسبين في وظائفهم.

وفي بادرة خطيرة خرج علينا أحد المسؤولين في وزارة الداخلية مطالبا قواته بالانسحاب إلي مقارهم تاركين ورائهم فراغا أمنيا، وذلك اعتراضا منه على بعض الانتقادات التي وجهت لوزارته من بعض النواب في المؤتمر الوطني العام. فهذا عبث ظاهر بأمن المواطن ينم عن ترجيح مبدأ الانتصار للنفس في مقابل أمن الوطن.      

العقيدة الأمنية

كانت الصفة الأبرز للأنظمة الشمولية هي في قدرتها علي تطويع مؤسسات الدولة –أمنيةً كانت أم مدنية- كي تكون خادماً وحارسا ومعينا لها علي عملية البقاء وترسيخ أركان حكمها، وفي سبيل تحقيق ذالك قامت بتقويض العقيدة الأمنية وتفكيكها من حماية الدولة بمؤسساتها والإيفاء بمهمة تطبيق القانون، إلى أجهزة تعمل كشركات أمنية تعنى بحماية الأشخاص.

وهذا فيه ما فيه من ابتذال وانحطاط يلحق الدولة وينقص من هيبتها وقدرها. وليس أدل علي ذالك من صنيع السادات رئيس مصر السابق حين قدمت إليزابيث تايلور ممثلة هوليوود الشهيرة إلي مصر فتم تكليف حراسة رسمية رافقتها طيلة مدة إقامتها مما أثار دهشتها واستغرابها، ودفع أحد المكلفين بإبداء استهجانه قائلا: “أليست مصيبة من مصائب الزمن أن لا يكون أمامنا شئ إلا حراسة إحدى ممثلات هوليوود ؟” . ولا يستنكر مثل هذا الصنيع ممن تمثّل القول المأثور عن لويس الرابع عشر: “أنا  الدولة”.

السلطة التشريعية والحكومة

تغيير العقيدة الأمنية من حامية للاستبداد إلى أخرى حامية للدولة الضامنة لأمن المواطن وحقوقه وحريته، وفق رؤية أمنية تتأتي عن طريق الحوار بين كتائب الثوار المعترفة بسلطة الدولة وغير المعترفة، مع ما تبقى من أجهزة أمنية اختارت الانحياز لثورة الشعب، هي أولى الخطوات المنتظرة.

قد لا يكون ذلك هيناً، لغياب الثقة بين الاطراف المعنية من ثوار كان لهم الدور الأبرز في تحرير البلاد والحكومة المقصرة في عملية بناء المؤسسات وتطهيرها عن طريق القضاء، إذ أن محاسبة المجرمين هي أحد المطالب الشعبية المهمة.

ولكن تواصل الحوار بين المختلفين فئات وأفرادا يفضي إلي تقلص شقة الخلاف ويكون أدعى للتوافق المؤدي لبر الأمان، وينبغي تغليب المصلحة الوطنية، فمتى ما كانت الحجة غالبة وجب النزول عندها وترك حظوظ النفس التي ما فتئت أن أودت بنا إلى التقهقر والتخلف عن ركاب العالم.   

من المهم أن تقود الحكومة الانتقالية دفة الحوار وتلعب دورا محوريا للتقريب والتوليف بين المختصمين كونها صاحبة الشرعية من الشعب الذي علق في رقبتها أمانة التأسيس للدولة المدنية المنشودة.

ويكمن الدور الأهم للسلطة الرقابية المتمثلة في المؤتمر الوطني العام في عملية المراقبة لأداء المؤسسة الأمنية لاسيما في بداياتها كي تقوم بتقويم الخطأ ومنع الاستبداد وطبائعه من الدب في أوصالها.