“طلبنا من الأجهزة الأمنية توفير الحماية لإعادة فتح المتاحف، إلا أنهم قالوا إن الأوضاع الأمنية متقلبة ولا يمكن إعادة فتحه”. بهذه الكلمات يبرر اللواء إيهاب فاروق، نائب محافظ الإسكندرية، ظاهرة ترقى لكونها كارثة ثقافية بل واقتصادية حاقت بمحافظة الإسكندرية، فهذه المدينة العريقة بمزاراتها الإغريقية والفرعونية والقبطية والإسلامية ليس بها اليوم متحف واحد مفتوح للزائرين، ما يكبد المدينة خسائر سنوية تصل إلى 190 مليون جنيه.

“طلبنا من الأجهزة الأمنية توفير الحماية لإعادة فتح المتاحف، إلا أنهم قالوا إن الأوضاع الأمنية متقلبة ولا يمكن إعادة فتحه”. بهذه الكلمات يبرر اللواء إيهاب فاروق، نائب محافظ الإسكندرية، ظاهرة ترقى لكونها كارثة ثقافية بل واقتصادية حاقت بمحافظة الإسكندرية، فهذه المدينة العريقة بمزاراتها الإغريقية والفرعونية والقبطية والإسلامية ليس بها اليوم متحف واحد مفتوح للزائرين، ما يكبد المدينة خسائر سنوية تصل إلى 190 مليون جنيه.

غالبية متاحف الإسكندرية الستة مغلقة “لدواع أمنية” منذ الثورة وهي المتحف القومي، ويضم 1800 قطعه أثرية من مختلف العصور، ومتحف الموزاييك و متحف المجوهرات، الذي يعرض مجموعه نادرة من المجوهرات الملكية التي لا تقدر بثمن، ومتحف الفنون الجميلة. وإن كان لا جدال في تعرض المتاحف على مستوى الجمهورية لخطر النهب في بدايات الثورة، ومع الانسحاب التام لقوات الشرطة من الشارع، إلا أن الخبراء أجمعوا على أن استخدام نفس الحجة في تبرير استمرار غلقها بعد الثورة بعام ونصف لا يبدو مقنعا، خاصة وأن حجم إيراداتها كفيل بتمويل حلول بديلة، كتوظيف شركات أمن خاصة مثلا.

أعمال ترميم لا تنتهي

بل إن المشهد يزداد غرابة بالنظر إلى حالة المتحفين الذين تكتمل بهما قائمة منشآت الإسكندرية الثقافية المنكوبة، وهما متحف الأحياء المائية والمتحف الإغريقي-الروماني.

يشرح الدكتور صلاح لطفي، الخبير الأثري والأستاذ بكلية الآداب قسم آثار، أن المتحف الروماني تم إغلاقه منذ عام 2003 بغرض الترميم مع الوعد بإنهاء الإصلاحات في غضون عامين، “إلا أن المسؤولين بالمجلس الأعلى للآثار فاجئوا الجميع بتصريحهم أن الميزانية لا تكفي لاستكمال أعمال التطوير، فتم غلق المتحف إلى أجل غير مسمي.”

مجرد حجج واهية – هكذا يؤكد لطفي – تخفي وراءها عملية سرقة من ذلك النوع الذي لا يتأثر بالحالة الأمنية للبلد، ولا بمعدل تواجد رجال الشرطة في الشارع. فبحسب لطفي تم الاستيلاء على موارد الترميم بالكامل من قبل مسئولين بوزارة بالمجلس الأعلى للآثار، ويقول: “تقدمت ببلاغين للنائب العام حملوا أرقام 158 و165 ضد المجلس الأعلى للآثار، وتحديدا ضد وزير الآثار السابق والمستشار القانوني للآثار ورئيس الإدارة المركزية لأثار وجه بحري ورئيس قطاع الآثار المصرية”، مشيرا إلى وقائع فساد وصرف مستحقات مالية تحت بند ميزانية التطوير دون وجه حق. لكن لم تتحرك النيابة للتحقيق فيها، حسب قوله.

شبكة المصالح القديمة باقية كما هي

وبتتبع مصير بلاغات لطفي تبدأ حلزونة البيروقراطية المصرية المعتادة، رغم أن البلاغات قدمت بعد ثورة يناير والتي رفعت تطهير المؤسسات شعارا لها. فنيابة الأسكندرية تؤكد أنها أحالتها إلي الجهاز المركزي للمحاسبات الذي يلتزم الصمت في القضية، مؤكدا أن الشكاوى لاتزال تحت الفحص. أما اللواء إيهاب فاروق، نائب محافظ الإسكندرية، فرغم اعترافه بوجود ثمة إهمال في علاج ملف السياحة الأثرية بالمدينة من قبل المجلس الأعلى للآثار، إلا أنه نفى علمه بأي بلاغات أو شكاوى تتعلق بفساد مسئولين بالمجلس، معللا بدوره خواء يديه بعدم اختصاص المحافظة بملفات الفساد في قطاع الآثار.   

والحقيقة أن التنقيب عن حالات فساد، حتى بعد الثورة، كثيرا ما يصطدم بعجز الجهات المسئولة، أو تباطؤها أو تسترها حسب تأويل آخر، لينتهي إلى أن هذه الجهات نفسها، وعلى رأسها النيابة العامة، مشوبة بتهم الضلوع في منظومة فساد الرئيس السابق، ولم تخضع لعملية تطهير ومحاسبة جذرية بعد.

بلاغات صلاح لطفي ضد مسئولي المجلس الأعلى للآثار ليست الوحيدة من نوعها، بل شهد المجلس كما هيئات حكومية أخرى على مدار العام الفائت عاصفة من البلاغات المقدمة ضد كبار مسئوليه تزامنت مع موجة اعتصامات واحتجاجات لموظفي القطاع تطالب بتطهيره، إلا أنها لم تترجم إلى حركة إصلاح حقيقية. يكاد يكون عزل الأمين العام السابق للمجلس زاهي حواس، المحكوم عليه بالسجن بتهمة سرقة الآثار، التغيير الوحيد بعد الثورة، لتظل الشكوك تحوم حول قياداته الأخرى، ومنها محمد عبد المقصود، رئيس الإدارة المركزية لآثار الوجه البحري السابق والذي شهدت ولايته “وقف حال” متاحف الأسكندرية. وقد فوجئ الكثيرون بتعيينه أمينا عاما للمجلس الأعلى خلفا لحواس، رغم اتهامه من قبل منظمات حقوقية بالكسب غير المشروع، كما جاء مثلا في تقرير “الفساد في قطاع الآثار في مصر في الفترة من 9/1/2001 إلي 23/1/2010 ل”مؤسسة ملتقي الحوار للتنمية وحقوق الإنسان،” هذا فضلا عن بلاغ مقدم ضده من قبل موظفيه يحمل التهم ذاتها.

مسؤولون بالآثار ضد فساد الكبار

هذا ويؤكد الدكتور محمد تقي الدين، مدير شئون العاملين بقطاع الآثار بالإسكندرية، أن البلاغ الذي تقدم به هو وزملاؤه (وعلي رأسهم الدكتور عبد الرحمن العايدي رئيس الإدارة المركزية لأثار مصر الوسطي والأثري نور الدين عبد الصمد جابر مدير عام إدارة المواقع الأثرية بوزارة الثقافة)‏ للنيابة العامة ضد الدكتور محمد عبد المقصود بشأن وقائع فساد جاء مرفقا بمستندات ودلائل ثبوت.

ويمضي تقي الدين قائلا‏ “البلاغ حمل رقم ‏1294‏ وتم تقديمه يوم‏ 17‏ فبراير عام 2011، وقد تم فتح التحقيق في البلاغ وسؤالنا مرة واحدة، وكان من المفترض أن يستدعي عبد المقصود ولكن ذلك لم يحدث.”

هكذا تظل متاحف الإسكندرية، حتى إشعار آخر، رهينة الغياب شبه التام لإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية.