يتألم الفخّار العجوز محمد الدسوقي وهو يمدد ساقيه المتعبتين أمام فرن الحرق موضحا المفارقة: “كيف لعمال هذه الصنعة التي يمتد تاريخها للفراعنة أن تطاردهم قوات الشرطة كأنهم مروجو مخدرات؟”. ويستكمل موال شكواه الذي يبثه قطعة الطمي التي يشكلها بيديه في ورشته بمدينة الزقازيق (عاصمة المحافظة وتبعد ١٥٠ كم شمال شرق القاهرة) قائلا: “أملك رسالة شكر علي هيئة بردية منحها الملك فاروق لأسرتنا حين زار قريتنا في الاربعينيات، تكريما علي حفظنا هذا التراث القديم”.

 

وتتوارث عائلات هذه المهنة، منها عائلة السيد العربي أحد فنانين المهنة الشباب الذي يقول في لقاءه بنا: “مهنتنا بنت المساجد والكنائس، الآن يزورنا السائحون فقط، تحولنا إلى مهنة أثرية، يأتون للتصوير معنا كأننا نحن الآثار”.

إقبال ضعيف على المنتجات الفخارية

بالطبع تغير الكثير منذ أربعينيات القرن الماضي، فخطوط إنتاج الأطباق والقلل والأزيرة التي كانت تصنع من الفخار، وهي من مستلزمات أي بيت ريفي، قد تم استبدالها بالأواني المعدنية. وتراجع استخدام هذه الادوات عند حدود الاكسسوار والديكور الذي يذكرنا بهذا الزمن، كما أغلقت عشرات الورش التي تخصصت في هذه المهنة لشحة الطلب على منتجاتها.

“أنها أربع ورش فقط الباقية الآن” يستكمل الابن شوقي الدسوقي موضحا: “واحدة منها في بلبيس والاخري في طريق الزقازيق منيا القمح، وما يجمع العاملين بها غالبا هو مشهد اعتصامهم المتكرر أمام مبني المحافظة اعتراضا علي قرارات الإزالة والمخالفات البيئية التي يحملوننا مسؤوليتها، وكأن حماية البيئة وتدهورها مسئولة عنه فقط الورش الاربعة”.

 

هل المهنة مسؤولة عن تلويث البيئة؟

الصراع على إنهاء المهنة ظهر قبل سنوات مع زيادة الشكوى من السحابة السوداء، وهي السحابة التي تغلف مناطق القاهرة خلال الخريف مع موسم حرق قش الارز، حيث اعتبر محافظ الشرقية قمائن الفخارين مسئولة عن هذه الظاهرة. وبدأت سلسلة من قرارات غلق الورش التي تعتمد على الأفران البلدية وتحرق الأخشاب والمخلفات، مما جعل الفخارين يتحايلون بالعمل ليلا بعيدا عن تحرك الجهات التنفيذية، وبعد سلسلة من الاعتصامات سمح لهم المحافظ السابق بالعمل ليلا في اطار اتفاق ودي.

المهندس علي عبد الرحمن مدير شئون البيئة بمحافظة الشرقية السابق يرى أن الازمة لم تكن بين المسئولين الحكوميين والمهنة بل بينهم وبين السحابة السوداء، وغالبا ما كنت سببا للاحراج بين المحافظين والسلطة المركزية في القاهرة، ويقول: “طلبنا من رجال أعمال كثيرين إعادة تشغيل العاملين في هذه المهنة، إلا أن المشتغلين بها رفضوا ترك المهنة التي تربوا فيها وعليها”. ويشير إلى أنه شخصيا رفض وتباطئ في تنفيذ قرار أغلاق القمائن، لتعاطفه مع العاملين، فهم وفق لها”عملة نادرة” يمكن التوفيق بين مهنتهم واشتراطات البيئة.

حلول بديلة

فكرة توطين المهنة خارج المناطق السكنية كانت محل سجال أيضا بين الفخارين والمحافظين المتتابعين، فوفقا لشيخ الفخارين محمد شوقي كانت المباحثات حول ذلك قد قطعت شوطا كبيرا إلا أن تعنت المحافظين المتعاقبين وإصرارهم علي تطبيق معايير البيئة المطبقة على المصانع الكبيرة، وتحميلنا وحدنا مسئولية السحابة السوداء أفشلت أي تفاوض، حسب قوله.

من ناحيته يطالب المحامي والحقوقي عصام كامل مدير الجمعية المصرية لحقوق الانسان بالشرقية بضرورة الحفاظ علي فن الفخار ورعاية العاملين به، مع ضرورة إسهام المجتمع المحلي في حل المشكلة التقنية الخاصة بالأفران، بحيث تستبدل بأخرى أعلى تكنولوجيا وأقل تلويثا للبيئة، مشيرا إلى أن المناخ بعد الثورة أشاع نوعا من الإدارة الديمقراطية التي من الممكن أن تستوعب قيمة الماضي جنبا إلى جنب مع ضرورات الواقع وآمال المستقبل.