الاعتداء المسلح الذي وقع قبل أسابيع على أضرحة صوفية عريقة لم يكن الأول من نوعه بعد الثورة، لكنه أعاد إلى دائرة الضوء ذاك الصراع التقليدي بين تيارين إسلاميين تنافسا طوال عقود على كسب قلوب المسلمين ومنابرهم.

الهجوم الأخير الذي استهدف على نحو متتالي ضريحي الشيخين عبدالله الشعّاب في طرابلس وعبدالسلام الأسمر في زليطن (160 كم شرق العاصمة) في أواخر آب/أغسطس الماضي، كان قد سبقه تعرض مقبرة سيدي عبيْد في بنغازي شرقي ليبيا وضريح سيدي نصر في سلوق (50 كم جنوب بنغازي) للنبش والتخريب من طرف جماعات سلفية تدين بذات الفكر والمنهج.  

الاعتداء المسلح الذي وقع قبل أسابيع على أضرحة صوفية عريقة لم يكن الأول من نوعه بعد الثورة، لكنه أعاد إلى دائرة الضوء ذاك الصراع التقليدي بين تيارين إسلاميين تنافسا طوال عقود على كسب قلوب المسلمين ومنابرهم.

الهجوم الأخير الذي استهدف على نحو متتالي ضريحي الشيخين عبدالله الشعّاب في طرابلس وعبدالسلام الأسمر في زليطن (160 كم شرق العاصمة) في أواخر آب/أغسطس الماضي، كان قد سبقه تعرض مقبرة سيدي عبيْد في بنغازي شرقي ليبيا وضريح سيدي نصر في سلوق (50 كم جنوب بنغازي) للنبش والتخريب من طرف جماعات سلفية تدين بذات الفكر والمنهج.  

حدث هذا بالمثل في مدينة درنة التي تبعد قرابة200 كم عن بنغازي شرقاً، وتعد معقل الجماعات الإسلامية السلفية الأبرز والأكثر تسلحاً وتشددا في ليبيا منذ عقود.

فبحسب روايات أهالي درنة، لم يسْلم مسجد الصحابة الشهير من جملة هذه الاعتداءات، إذ كان هو الآخر عرضة لهجوم مشابه في حزيران/ يوليو من العام الماضي من طرف جماعة تتبع كتيبة “راف الله السحّاتي” المسلحة، وهو ما أنكرته الكتيبة في بيان لاحق.

وبالرغم من حزمة التنديدات والشجب التي جاءت متأخرة على ألسنة رئيس المؤتمر الوطني العام ورئيس الوزراء ووزير الداخلية ومفتي الديار، إلا أن سلسلة الاعتداءات هذه لم تتوقف.

“مشركون” و”جهلة”

تعود جذور الصراع السلفي – الصوفي عموماً إلى اختلاف عقائدي تبنّى من خلاله كلا الفريقين مذهباً وخطاباً مغايراً ومعادياً للآخر.

ففي الوقت الذي يصف فيه السلفيون الصوفية بالبدعة والدروشة، بل حتى بالشرك حسب فتاوى متشدديهم، ينعت الصوفيون خصومهم “بالجهل والظلامية” وبالجمود والتخلف عن ركب الحضارة.

هذا النزاع تفاقم منذ الثمانينيات مع صعود الإسلام السياسي وتنامي خلايا الجماعات الإسلامية المسلحة بالرصاص وفتاوى الوهّابية السعودية، ومع زيادة إقبال الشباب على الفكر التكفيري الذي يبثه الإعلام التلفزيوني على حساب الموروث الصوفي الغارق في التاريخ الليبي.

لكن وقبل كل شيء، كانت الخصومة بين الطرفين وَرقة مهمة بيد النظام السابق استخدمها بحسب مختصين للقضاء على خطر السلفية التي ناصبته العداء منذ نشوئها في البلاد، وإن جاء ذلك على حساب “تشويه” الفكر الصوفي.

وشاة ومخبرون

فرج الفاخري سلفيٌ في الأربعين من عمره، يعمل إماماً ومحفظاً للقرآن في مسجد الأنصار بمدينة طبرق (450 كم  شرق بنغازي)، يصف لـ “مراسلون” طبيعة هذا الخلاف، متطرقاً لما جرى له أثناء توليه الإمامة زمن القذافي.

يقول الفاخري “كان الأئمة والخطباء (السلفيون) ممنوعين من الجهر برأيهم على المنابر، ومن يتجرأ على فعل ذلك سيجد في انتظاره وشاة هيئة الأوقاف ورجال الأمن الداخلي”.

وعلى الرغم من أن هيئة الاوقاف سمحت للفاخري رسمياً بإمامة مسجد الأنصار منذ 2004، لكنها ضيّقت عليه وامتنعت عن إرسال مرتبه الشهري إلى حسابه الشخصي، ويتابع في هذا الصدد “لم أتقاض قرشا واحدا، لكن بعد الثورة صرفوا لي مرتب عامين كاملين”.

الإمامة بشروط القذافي

ويمضي الفاخري قائلاً “كان يُشترط لتوظيف الخطباء موافقة الأمن الداخلي، واستخراج ما كان يعرف بـ”بطاقة تعارف”، تتم فيها الإجابة على العديد من الأسئلة الاستخباراتية لمعرفة مدى ولاء المتقدم للنظام، عدا أن الاجتماعات الخاصة بالهيئة العامة للأوقاف كانت تُعقد بمقر مكتب فريق العمل الثوري الذي يروج لأفكار القذافي”.

ولم يكن هذا فقط حسب الفاخري، فقد كانت تفُرض على الإمام بعض الشعائر الصوفية، التي لا دليل على وجوبها في الكتاب والسنة .

يقول الفاخري “تم إلزامنا بترديد دعاء القنوت في صلاة الفجر، والتسابيح أثناء صلاة التراويح في رمضان”، وهي كما يجزم “شعائرٌ من المذهب الصوفي تثير امتعاض السلفيين الذين يروْن فيها مخالفة صريحة للسنة النبوية”.

جلسات “سحرة”

ومن باب الإنصاف يقول خليفة غريبيل، 25 سنة، الذي يعمل إلى جانب مهنة الصيدلة إماماً لمسجد الأرقم بن الأرقم بطبرق إن “الصوفية الصحيحة لانجد فيها خلافاً للسنة ومذهب السلف الصالح”.

ويضيف “نحن نعيب على مبتدعة المتصوفة حصرهم العبادة في ترتيل القصائد المدْحية وإقامة الحضرات”، وهي “جلسات لا يقيمها إلا السحرة” حسب وصفه.

وبالرغم من ذلك، يتأسف الإمام الشاب على ما حدث من تخريب لبعض الأضرحة والقبور الصوفية في الأشهر الماضية على يد السلفيين، قائلا “كم تمنيت لو كان ذلك تحت إشراف هيئة من العلماء، فهي بلا شك من معالم ورموز وتاريخ هذه البلاد”.

افتراء على الصوفية

لا يمكن أن يتوقف الأمر على شهادة السلفيين وحدهم، حتى وإن كانت معتدلة ومنصفة، كما وصفها علي ساسي، طالب دكتوراه متخصص في العلوم الشرعية من طرابلس الذي قال “ثمة خلط في الأمر، وافتراء على الصوفية من طرف الكثير من السلفيين المتشددين، فلم تكن الصوفية يوماً مقتصرة على المدائح، وما يروج له بعض المسترزقين بها من الدخلاء عليها، هي أكبر من ذلك بكثير”.

كما ينفي ساسي عن الصوفية انصياعها لسياسة النظام السابق، واصفاً إياها بالبساطة والرضى والمسالمة، ولا ينسى أن يؤكد على أنه “يحدث أحياناً أن تسقط الصوفية في أيدي الطغاة يستخدمونها لمآربهم وسياساتهم”. 

ساسي ختم حديثه لـ “مراسلون” قائلاً “أنا صوفي ابن صوفي، ولم أشعر يوماً أني أقترف ما يغضب الله أو السنة الصحيحة، ولكي يستقيم حالنا علينا بالتسامح وإشاعة ثقافة الحوار بالحسنى والعلم والمعرفة”.

سيادة الدولة

من جهتها أبدت هيئة علماء ليبيا عدم رضاها عما حدث من تصعيد مسلح طاول العديد من المنارات الإسلامية الشهيرة.

وبالرغم من تأكيدها على ضرورة احترام هيبة الدولة وعدم المساس بأمنها، إلا أن الهيئة لم تخفِ إنكارها لبعض الممارسات التي تحدث “مخالفة لشرع الله وسنة رسوله”.

يقول الشيخ نصر سعيد عقوب أحد كبار علماء الهيئة التي تأسست بعد الثورة، إن “الليبيين مجتمع متدين، ومايحدث الآن من شد وجذب بين التيارين لايمكن أن يحل بالقوة”.

ويشير الشيخ عقوب إلى أن الصراع السلفي – الصوفي هو “ثقافي وفكري” أولاً وأخيراً، ولا يمكن حصره في الخلاف حول إزالة القبور من عدمها، وإن كان الحوار والحجّة هما البديل لـ”منطق القوة العسكرية” حسب رأيه.

ورغم الخلاف الذي يبدو شائكاً بين التيارين إلا أنهما اعتادا الحياة جنباً إلى جنب في ليبيا لعقود طويلة، إلا أن انتشار السلاح وسواد منطق أن الحق مع الأقوى هو من دفع التيار السلفي لفرض منطقه بالقوة على التيار الصوفي، الذي يرفع السلام والمحبة شعاراً، حتى إشعار آخر!