على ستة مخيمات للنازحين في بنغازي، توزّع الآلاف من مهجّري مدينة تاورغاء، تجمعهم الآلام والأحلام ودورات المياه المشتركة، في عقاب جماعي يلقونه نتيجه مناصرة أغلبهم لنظام القذافي إبّان الثورة.

تاورغاء التي تحولت اليوم إلى “مدينة أشباح” بعد أن هجرها سكانها، تقع على الطريق الساحلي الرابط بين شرق ليبيا وغربها، وهي التي شكّلت بحكم موقعها القريب من مدينة مصراتة (200 كم شرق طرابلس) إحدى أقوى جبهات “كتائب القذافي” تسلّحاً، وأكثرها فتكا وشراسة.

على ستة مخيمات للنازحين في بنغازي، توزّع الآلاف من مهجّري مدينة تاورغاء، تجمعهم الآلام والأحلام ودورات المياه المشتركة، في عقاب جماعي يلقونه نتيجه مناصرة أغلبهم لنظام القذافي إبّان الثورة.

تاورغاء التي تحولت اليوم إلى “مدينة أشباح” بعد أن هجرها سكانها، تقع على الطريق الساحلي الرابط بين شرق ليبيا وغربها، وهي التي شكّلت بحكم موقعها القريب من مدينة مصراتة (200 كم شرق طرابلس) إحدى أقوى جبهات “كتائب القذافي” تسلّحاً، وأكثرها فتكا وشراسة.

فمنذ الشهر الثاني للثورة الليبية (آذار/ مارس 2011)، اتّخذت الكتائب من هذه المدينة مرتكزاً قتالياً لقرابة ثمانية آلاف عسكري نظامي ومرتزق، يرشقون بوابل مدافعهم وصواريخهم مواقع الثوار في مصراتة، التي لايفصلها عنها سوى 38 كم من الصحراء.

تهجير جماعي

بعد تحرير مصراتة والمدن المحيطة بها  يوم 11 آب/ أغسطس من العام الماضي، بدأت عملية تهجير سكان تاورغاء الأربعين ألف على يد قوات مسلحة من مصراتة، في أكبر عملية تهجير بعد الثورة.

ويروي محمد عكشة المكلف بالمجلس المحلي لتاورغاء في مدينة بنغازي، أن الكتائب المسلحة ساقت الشيوخ والعجائز وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى من المدينة، ونقلتهم إلى منطقة الهيشة (70 كيلو متر شرقاً) ومنعتهم من الرجوع.

ويتابع أن الكتائب “طاردتهم في منطقة الجفرة (وسط ليبيا)، وقتلوا بعضاً منهم، وخلال تجمعهم هناك جاءنا خبر يفيد بوضعهم السيء، وعليه أرسلنا شاحنات استجلبتهم”.

ويضيف “(في يوم 29 أيلول/ سبتمبر 2011) كان عدد سيارات الشحن 13 سيارة حملت كل منها 140 شخصاً، في حين أن حمولتها الطبيعية 40 شخصاً، في رحلة استغرقت 48 ساعة”.

عضو المجلس المحلي وصف وضع الاهالي أثناء التهجير قائلا إن “السيارات كانت مكشوفة، والناس كانوا عرضة للأتربة والرياح ولم يكونوا مهيئين للسفر، بل كانت ملابسهم رثة، وهناك من لم يجد ما يرتدي فى رجليه”.

الهجرة إلى الهيشة

كان ذلك قبل عام كامل، ورغم مضي كل هذا الوقت، وتعاقب حكومتين مؤقتتين على ليبيا، ظلت تاورغاء مشروع مدينة مهجورة، لازال سكانها حتى الآن تطاردهم لعنةُ التيه القسري في مجاهل الوطن، إلى أجل غير مسمى.

ولم تكن بنغازي أولى محطات النزوح “التاورغي”.. فبعد لجوء الكثير من العائلات إلى منطقة الهيشة، نزح التاورغيون من هناك بالآلاف إلى ترهونة وطرابلس غرباً، والجفرة وسبها جنوباً، فيما تؤكد الإحصائيات أن بنغازي في الشرق تؤوي مخيماتُها الستة قرابة 13 ألف نازح.

مخيم قاريونس

سيراً على الأقدام دخل فريق “مراسلون” إلى مخيم قاريونس الذي يؤوي 2500 نازح، وهو أكبر مخيمات تاورغاء في بنغازي بالشرق الليبي، ترافقنا فتاة من الأهالي رفضت ذكر اسمها.

وما أن بلغنا المكان حيث تعيش حتى فاجأتنا قائلة “نحن نقيم هنا.. أسرتي تتكون من تسعة أفراد، ذكور وإناث، نتشارك في حجرة واحدة”، مشيرة إلى غرفة لا تتعدى مساحتها أربعة امتار مربعة.

اقتربنا من عتبة الغرفة المكتظة بالحقائب ولوازم الطبخ والحوائج المتناثرة، كان الهواء رطباً خانقاً، فآثرنا مواصلة السير، فيما استرسلت رفيقتنا التاورغية تقول “نحن 16 عائلة يجمعنا قاطع واحد فيه 16 حجرة، ونتشارك في دورة مياه واحدة يستعملها الجميع.. أنا والدتي مريضة، مصابة بجلطة في القلب، وحجرتنا تبعد مسافة طويلة عن دورة المياه”.

وعبر ممر طويل تنتشر على جنباته أغراض وملابسٌ، وجدنا سيدة عجوزاً تتكئ على عكازها، تحمل دلو ماء، قالت إنه من أجل الاستحمام. وكانت تعابيرها تختزل ما تعانيه بلا أدنى شكوى.

وما أن تركتنا العجوز ومضت بدلوها حتى قالت رفيقتنا التي تعمل ممرضة في عيادة المخيم “المكان مزدحم ولايوجد في العيادة دكتور باطنة أوقلب، كما أن الإسعافات الأولية ليست متوفرة رغم كثرة حالات مرضى الضغط وداء السكري”.

وأوضحت الفتاة أن وزارة الصحة لم تقدم للمخيم أية مساعدات، كما أن من يعمل في عيادته من أطباء وممرضين هم متطوعون، متخصصون في أمراض النساء والأطفال لاغير .

في عمق المأساة

وبطول جولتنا كانت تتضح معالم الحياة الصعبة داخل المخيم، فجميع العنابر تكتظ حجراتها بالعائلات، يتقاسمون نفس المعاناة، فها هي سيدة ترقد بالفراش، ترقبنا وهي تغالب شدة الحر والرطوبة، لتشحذ الهواء من جهاز للتنفس.

أخبرتنا ابنتها أنها تعاني من مرض الربو، وأن العيش في المخيم لا يساعد في تحسن حالتها.

“ليست لدينا قدرة على استئجار بيت خارج المخيم، فمن أين سنأتي بالمال إن أردنا الخروج من هنا؟” تقول الفتاة.

كانت تحاول أن تشرح أن ما يطالب به نازحو تاورغاء من حقوق هو “معاملتهم كليبيين” فقط؛ وعلى من أخطأ في حق أحد أن ينال جزاء فعله بالعقاب الذي يحدده القانون.

وتساءلت بحرقة “ما ذنب الأطفال ليعيشوا فى هذا المناخ الملوّث؟، وما ذنب العجائز اللواتي أصبحت أنفُسُهن تعاف الأكل من كثرة الحشرات والذباب؟”

أمراض جلدية

مضينا في تجوالنا داخل المخيم، واتجهنا إلى حيث سنكتشف عالم الطفولة المحرومة من الحفاظات والحليب، توقفنا عند مصدر المياه نتفرّس واقعاً مرضياً يحكي نفسه.

وسط “بحيرة” من المياة الضحلة العفنة، كان الأطفال يخوضون غمار اللعب واللهاث، للوصول إلى

مصادر المياه، تحيطهم سحابات من الحشرات الطائرة والزاحفة، قالت عنها إحدى الفتيات النازحات “أنام و أصحو وهي فوق رأسي”، وأردفت “الأمراض الجلدية منتشرة بشكل كبير، والأطفال يشكون باستمرارمن أعراض الإسهال و التقيؤ”.

وأثناء بحثنا عن مسؤولي المخيم استوقفنا أحد الشباب قائلاً “ماعليه أهالي تاورغاء من وضع مأساوي داخل هذه الملاجئ هو نتاج إهمال أصحاب المناصب والسلطة فى الدولة الليبية، لقد ساءت حالتنا.. وأصبحت معيشتنا صعبة، وأطفالنا مرضى”.

الوضع الأمني ليس أفضل حالاً بحسب الشاب، فقد روى لنا أن المخيم تعرض لإعتداء قبل عيد الفطر بيوم، ولم تحدد الدولة حتى الآن هوية الجناة.

“نحن لانريد أكثر من أن تُعيرنا الحكومة الليبية جزءً من اهتماماتها، وليفعّلوا القانون والقضاء حتى يأخذ الجاني جزاءه، ويعود الأبرياء إلى بيوتهم سالمين”.

إنقاذ مايمكن إنقاذه

التقينا مسؤول المخيم سعد العريبي الذي أكد أن كل الجهود التي تبذل ستظل “تلفيقية” مالم تتدخل الدولة “بثقلها الوزاري” في رفع معاناة هؤلاء النازحين.

يقول العريبي “نحن نسعى لتحسين أوجه الحياة داخل المخيم، وقد جهزناه بإحدى عشر عنبراً جديداً، عملنا على تسكين أربعة منها حتى الآن”.

لم يأت أحد من الحكومة لزيارة نازحي تاورغاء بمخيم قاريونس بحسب العريبي، باستثناء مندوبيْ وزارتي التعليم والصحة، وتم بجهود القائمين عليه افتتاح أول مدرسة بالمخيم ضمت حوالي 700 طالب، من مرحلة الإعداد – الروضة – وحتى الصف التاسع.

ويتابع العريبي أن هناك مساعي من قبل لجنة النازحين واللاجئين والهجرة غير الشرعية، التابعة للمجلس المحلي في نغازي، للسفر إلى مدينة مصراتة واستجلاب ملفات 300 طالب جامعي لاستكمال تعليمهم في بنغازي.

غادرنا مخيم قاريونس ونحن نستحضر كلمات العريبي “الوضع آمن ومستقر وفق طريقة منظمة تلزم الخارجين من المخيم بإبراز بطاقة نازح، على أن يرضخ الداخلون بسياراتهم لإجراءات تفتيش دقيقة”.

إلا أن هذه الإجراءات رغم أهميتها لا تغني أولئك النازحين عن مطالبهم بالعودة إلى ديارهم التي هربوا منها بحثاً عن مدن أخرى آمنة، في ما يشبه عقابا جماعيا.