في العشر الأواخر من شباط/ فبراير 2011، وما أن تحرر الشرق الليبي من سيطرة نظام القذافي، حتى دارت عجلة الصحافة الليبية في شكلها الجديد، لتخرج عشرات النشرات، وصحف الأخبار والرأي، التي تفاوتت مستويات أدائها، إلا أن أغلبها اجتمع حول مضمون خطاب الثورة الليبية الوليدة.
صحافة هواة
في العشر الأواخر من شباط/ فبراير 2011، وما أن تحرر الشرق الليبي من سيطرة نظام القذافي، حتى دارت عجلة الصحافة الليبية في شكلها الجديد، لتخرج عشرات النشرات، وصحف الأخبار والرأي، التي تفاوتت مستويات أدائها، إلا أن أغلبها اجتمع حول مضمون خطاب الثورة الليبية الوليدة.
صحافة هواة
رضا طيب، شاب عشريني كان ضمن فريق من الشباب اجتمعوا على إصدار صحيفة إبان الثورة، بعد أن قطع نظام القذافي خطوط الإنترنت ليترك الليبيون وحيدين مع برامج “يوسف شاكير” و”هالة المصراتي” الموالية للأخ العقيد.
لم يكن رضا وأغلب الشباب ممن أصدروا بعض الصحف في تلك الفترة قد درسوا فنون الصحافة أو زاولوها من قبل، وهذا ما صعب عليهم المهمة، “لكننا اردنا إيصال صوت الثورة”، يقول.
ورغم افتقار هذه المجموعة للموارد، تمكنت في منتصف آذار/مارس 2011 من تدبير مصاريف صحيفة صغيرة صدرت مؤقتاً على شكل مطوية تحت اسم “أحفاد المختار”.
المطوية تطورت لاحقاً بمساعدة بعض الصحافيين إلى صحيفة أسموها “قوريني”. وهي غير تلك التي كانت تحمل نفس الاسم، وتصدر من بنغازي ضمن صحف “شركة الغد” المحسوبة على “سيف القذافي” قبل أن تنشق عن إعلامه، وتنضم إلى صحف الثورة تحت اسم “قورينا الجديدة”.
على قارعة الطريق
يصف رضا تجربة صحيفة “قوريني” قائلاً “حاولنا رصد بعض أحداث الثورة ومواكبتها، ولازلت أتذكر أحداث جبهة البريقة (240 كلم غرب بنغازي) وما رافقنا من ظروف حرب ومتاعب، أجبرتنا أحياناً على الوقوف لساعات على قارعة الطريق في انتظار توصيلة، حينها فقط، عرفنا لماذا سميت الصحافة بمهنة المتاعب”.
في ذلك الوقت، وبتراكم أعداد الصحف، وفي غياب حضور قوي لمطابع الدولة، رأى أصحاب المطابع الخاصة أن يمنحوا الأولوية للصحف الأوسع انتشاراً والأكثر إصداراً.
وتوجب على الصحف الأقل شهرة وحظاً أن تتأخر عن موعد صدورها لأيام ولأسابيع أيضاً، مما دفع بعضها لطباعة صحفها في مصر، كما فعلت مثلا صحيفة “الكلمة الحرة” التي كانت تصدر في مدينة البيضاء.
آخر قرش في آخر نسخة
بعد سقوط النظام الليبي السابق، ترك رضا معترك العمل الصحفي وارتدى زيه الأبيض ليلتحق بمقاعد الدراسة، فهو يدرس الطب بجامعة عمر المختار في مدينة البيضاء (200 كلم شرق بنغازي)، ولم تكن الدراسة هي سبب توقف الصحيفة في أيلول/ سبتمبر 2011، وإنما نفاذ الموارد المالية “بعد صرف آخر قرش على آخر نسخة” حسب قوله.
ما حدث مع صحيفة “قوريني” لم يكن استثناءً، فقد تكرر مع عشرات الصحف التي تموّل ذاتياً، حيث كشفت دراسة أعدتها الصحافية هند الهوني في أيار/مايو 2011 بمدينة بنغازي، أن من بين 29 صحيفة شملتها الدراسة تبين أن 21 منها توقفت، بعد أن صدرت منها أعداد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأن 15 صحيفة توقفت لأسباب مالية تتعلق بغياب التمويل أو سوء التسويق، والباقي توقف لأسباب فنية.
وفيما يعرض رضا أمام “مراسلون” أعداداً من الصحيفة ينهي كلامه بالقول “في نهاية المطاف الصحافة ليست اختصاصي، ولابد أن يأتي يوم يتوقف فيه العمل التطوعي، لكنني راضٍ عما أنجزناه، لقد أوصلنا رسالتنا”.
صحف لحظتها
مراسل موقع “الجزيرة نت” خالد المهير، هو أحد الصحافيين الذين عاصروا حقبة قاسية من عمر الصحافة الليبية، وهو اليوم يصف صحافة ما بعد ثورة فبراير بـ”الثورية”، إلا أنه يرحب بوجودها كونها “واكبت الثورة منذ اللحظات الأولى، وبإمكانيات بسيطة جداً، لاتتعدى جهاز كمبيوتر شخصي، وغرفة مدمرة أو محترقة بجوار مبنى المحكمة ببنغازي”.
ويشيرالمهير إلى أن صحافة الثورة نتاج لحظتها، ومن الطبيعي عند استقرار الأوضاع أن تنتهي مهمتها لغياب الممول، خاصة وأنها تحتاج إلى دعم كبير وهذا ما لم تستطع الصحف احتماله.
وإذ يبقى الدعم المالي هو السبب الرئيس في مغادرة هذه التجارب لميدان الصحافة، فإن خالد المهير يحمّل المسؤولية لهيئة تشجيع ودعم الصحافة المشكلة بعد تحرير ليبيا، لأنها بحسب رأيه دعمت “ما تبقى من إرث مؤسسة القذافي الصحفية”.
إعلام سري
الوضع في العاصمة طرابلس التي ظلت تحت سيطرة كتائب القذافي حتى 20 آب/ أغسطس 2011، أجبر الصحافيين وهواة الصحافة ممن دعموا الثورة، على العمل في أجواء تحيطها السرية والكتمان.
منطقة سوق الجمعة التي شهدت مقاومة صلبة للكتائب منذ قيام الثورة وحتى تحرير العاصمة، أفرزت على سبيل المثال عدداً من التجارب الصحفية الجريئة، وعلى الرغم من خطورة العمل الإعلامي السري، إلا إن هذه التجارب -رغم بساطتها- اتسمت بالجراة والشجاعة في أخطر مراحل “ليبيا الثورة” بطشاً وطغياناً.
المهمة انتهت
آسيا بن جابر أصيلة سوق الجمعة أكبر ضواحي طرابلس، والتي مارست العمل الصحفي السري صحبة أختها نادية وأخوتها الذكور وبعض الأصدقاء، روت لـ “مراسلون” ظروف العمل آنذاك.
تحكي آسيا أنه قبل أن يُشرع في إصدار صحيفة “صمود العاصمة”، تم في آذار/مارس 2011 تأسيس حركة سرية تحمل نفس الاسم، باشرت منذ تأسيسها في توزيع المناشير والمطبوعات التي تفضح ممارسات كتائب القذافي، وتنشر أسماء المتورطين في الجرائم من رموز النظام وأتباعهم.
“كانت مرحلة مريرة محفوفة بالمخاطر” تصف آسيا، وبتوالي انتصارات الثوار في معظم المدن الليبية تقول “اقترحت علينا رفيقتنا الثائرة فاطمة القدراب مشروع إصدار صحيفة”.
ثم عُرضت الفكرة بحسب قولها على الكاتبة والصحفية الليبية أسماء الأسطى التي ساهمت بحكم تجربتها الصحفية، في تطعيم الصحيفة بمقالات ومواد مختلفة رأت النور في عددين متوالين، صدر الأول منها في تموز/يوليو 2011، ووزعت منه حوالي 1600 نسخة، وصدر الثاني والأخير قبل تحرير طرابلس بأيام.
وبتحرير طرابلس في 20/8/2011 توقفت هذه الصحيفة التي ينطبق عليها وصف المهير بـ”الثورية”، بعد أن أدت المهمة التي أُسسست لأجلها، وعاد القائمون عليها إلى حياتهم وأعمالهم الطبيعية.
أربعة عقود مضنية هي عمر الصحافة الليبية الموجهة، انتهت لصالح صحافة جديدة، لازالت تحاول أن تخلق حالة من الرضى والتواصل مع القارئ الليبي، وتكون بحق السلطة الرابعة في ليبيا الحرة، إلا أن الطريق بحسب المهير وصحفيين آخرين، “ما زال طويلا”.