والدة محمد العماري عجوز في العقد السادس من العمر، كانت تتربع على بساط بال قرب كانون من الطين وقد تدلت ضفائرها التي غزاها الشيب على صدرها. قامت متثاقلة وهي تدعو ابنها محمد كي يتناول لقمة من الخبز مع قليل من الزيت.

تعلم هذه السيدة أن ولدها لن يسمعها أبدا ولن يتاح له تذوق خبزها الساخن، فقد سبق له أن لقي مصرعه يوم 24 كانون الثاني/ ديسمبر 2010 إبان مواجهات بين متظاهرين وقوات الأمن في مدينة بوزيان (60 كم جنوبي سيدي بوزيد).

والدة محمد العماري عجوز في العقد السادس من العمر، كانت تتربع على بساط بال قرب كانون من الطين وقد تدلت ضفائرها التي غزاها الشيب على صدرها. قامت متثاقلة وهي تدعو ابنها محمد كي يتناول لقمة من الخبز مع قليل من الزيت.

تعلم هذه السيدة أن ولدها لن يسمعها أبدا ولن يتاح له تذوق خبزها الساخن، فقد سبق له أن لقي مصرعه يوم 24 كانون الثاني/ ديسمبر 2010 إبان مواجهات بين متظاهرين وقوات الأمن في مدينة بوزيان (60 كم جنوبي سيدي بوزيد).

في ذلك اليوم المشؤوم اخترقت جسم محمد رصاصة نفذت من الخلف ليكون بذلك أول شهداء الثورة التونسية، بينما كان يحاول إنقاذ شوقي النصري ثاني الشهداء الذين قدمتهم مدينة بوزيان.

خبر مقتل الابن نزل يومذاك كالصاعقة على كاهل الخالة مبروكة التي تقول “كنت أجني حبات الزيتون في إحدى القرى المجاورة، أحسست بشلل في كافة اطرافي ولم أعد أقوى على الحركة”.

الرئيس وعده بعمل

في إحدى زوايا البيت جلس الشيخ بشير، والد محمد العماري، ينظر حوله دون أن ينبس بحرف واحد، لكن الصمت كان خير تعبير عما تخفيه قسمات وجهه الشاحب من صور.

الشيخ كان من قلائل الناس البسطاء الذين قابلوا الرئيس السابق زين العابدين بن علي في بدايات الثورة. فبعد يومين من مقتل ابنه محمد طلب منه معتمد الجهة الحضور إلى المركز الأمني، ومن ثم توجه بعدها رفقة دورية للحرس الوطني إلى قصر فرطاج الرئاسي في رحلة طويلة تعرض خلالها إلى عدة نقاط تفتيش.

وعن اللقاء مع الرئيس المخلوع يقول “كان زين العابدين يدرك أن الأمور تسير نحو الأسوأ. سألني سؤالا واحدا حول ظروف استشهاد ابني، ومن ثم وعدني أن يمكّن أحد أبنائي من عمل في أقرب وقت ممكن”. ثم طأطأ جبينه الذي اعتلته عروق بارزة ليضيف “لم يكن هناك خيار أمامي، إذ لا أحد كان يجرؤ على رفض اللقاء مع الرئيس”.

سمسرة بالشهداء

لم يفِ الرئيس بن علي بوعده، إذ أن الامور تسارعت وأفضت إلى إسقاطه ومن معه في الحكم، لتؤول السلطة فيما بعد إلى أحزاب منتخبة كانت كوادرها موزعة بين المنافي والسجون.

أما عائلة محمد العماري، خريج قسم الفيزياء الذي قتل بعد ثلاثة أيام من اجتيازه مناظرة التدريس، فبقيت ترزح تحت ظروف العوز والفقر نفسها، وبقيت رحلة الشيخ البشير مع الفقر تتجدد مع إشراقة كل شمس مع أمل جديد في أن تمكن الحكومة أحد أبنائه من شغل يعيل أسرته ذات العشرة أفراد.

ويقول الشيخ بشير إن “الثورة لم تنصفنا نحن الطبقات المسحوقة التي عانت ويلات الظلم والاستبداد وعاشت عقودا طويلة تئن تحت سياسة الإقصاء والتهميش”.

بل إن ابنه حسان ذكر أن بعض الأحزاب تحاول “السمسرة” بقضية العماري وأضاف “أخي لم يكن قوميا أو تقدميا مثلما تدعي بعض الأحزاب السياسية، ثورتنا كانت تلقائية من أجل ما نعانيه ومازلنا نقاسيه حتى اليوم “.

ضد مجهول

وبعد سنة بعد رحيل محمد العماري أحيى شباب بوزيان ذكراه بما يليق بأول شهيد للثورة التونسية، وكان حفل التأبين كناية عن مظاهرة تحت عنوان “يوم الغضب”.

ويقول زياد أحد أبناء المدينة ذات الستة آلاف نسمة أنه يوم غضب من تواصل المعاناة من البطالة والتهميش وغضب من الوعود التي لا تتحقق، مشيرا إلى أن المظاهرات تتجدد في “مدينة محمد العماري”.

أما السيدة العجوز الخالة مبروكة، فتقول إن “المال لا يمكن أن يعوض خسارتي بابني الشهيد”، وكل ما تتمناه أن تعرف من هو صاحب الرصاصة الغامضة الملفوفة بكيس نايلون شفاف، الرصاصة المسجلة “ضد مجهول” في ملف محمد العماري.