في زاوية من محل لبيع التجهيزات الخاصة بالمقاهي والمطاعم في منطقة حي الخضراء بتونس العاصمة يجهد زكرياء القاسمي في أن ينتصب واقفا على قدميه مستندا إلى الحائط.

ليس من الواضح إن كانت آوجاعٌ ألمّت بظهره نتيجة حمله البضائع، أم أنها إحدى مخلفات سنة سجنه في 2007 التي لم تنجح في انتزاع ابتسامته المحاطة بلحية غزيرة.

يقول زكرياء عن نفسه أنه سلفي، لكنه وعلى خلاف كثيرين من السلفيين ليس راضٍ عن أفعال بعض ممثلي هذا التيار في بلده. أولئك الذين يريدون “هداية” الناس باستعمال العنف، أو الذين يفرضون على المجتمع نسخة محافظة من الدين.

في زاوية من محل لبيع التجهيزات الخاصة بالمقاهي والمطاعم في منطقة حي الخضراء بتونس العاصمة يجهد زكرياء القاسمي في أن ينتصب واقفا على قدميه مستندا إلى الحائط.

ليس من الواضح إن كانت آوجاعٌ ألمّت بظهره نتيجة حمله البضائع، أم أنها إحدى مخلفات سنة سجنه في 2007 التي لم تنجح في انتزاع ابتسامته المحاطة بلحية غزيرة.

يقول زكرياء عن نفسه أنه سلفي، لكنه وعلى خلاف كثيرين من السلفيين ليس راضٍ عن أفعال بعض ممثلي هذا التيار في بلده. أولئك الذين يريدون “هداية” الناس باستعمال العنف، أو الذين يفرضون على المجتمع نسخة محافظة من الدين.

جيل سلفي جديد

ينحدر هذا الشاب الثلاثيني من منطقة “المكناسي” من ولاية سيدي بوزيد الجنوبية، وكان المقام استقر به في العاصمة مع زوجته وابنه يحيى البالغ من العمر سنة وبضعة أشهر. ومن خلال تنقله بين العديد من الولايات وصل إلى نتيجة مفادها أن “التونسيين مسلمون بطبعهم ولا يحق لأي كان أن يكفّر أحدا إلا إذا جاهر بكفره”.

ينتمي زكرياء بحسب قوله إلى “جيل جديد” من التيار، “جيل يتصف بالانفتاح وقبول الآخر وإن كان هذا الآخر على غير دين الإسلام” يقول لموقع “مراسلون”.  جيلٌ لا يجبر النساء على ارتداء الحجاب وإن تمتم بعبارة “يهديها الله” كلما رأى امرأة سافرة. جيل لا مشكلة لديه مع أهل الفن طالما أنهم لا يمسّوا المقدّسات، جيل يرفض إفساد التظاهرات الثقافية والفنية ويعتبرها “تصرف خاطئ”.

لكن وقبل كل شيء هو جيلٌ ينبذ السياسة ويدعو للابتعاد عنها، وينتقد انشغال السياسيين بقضايا “هامشية” ويصنفهم ضمن طائفتين من البشر: “فريق على غيّ تنقصه التجربة والمعرفة”، وفريق ثانٍ “انخرط في موجة من الصراعات الجانبية شغلته عن القضايا الهامة”.

بيوت الله وحده

لا يخفي السلفي الشاب امتعاضه من تصرفات عدد ممن التحقوا بالتيار السلفي إثر الثورة وممارستهم العنف المادي واللفظي على المواطنين في الشارع والمساجد.  

ويشدد على أن المساجد “بيوت لله وحده، لا يجوز أن يخاض فيها صراع على مغانم دنيوية”، في إشارة إلى صراع يدور بين أنصار التيار السلفي وبين أنصار حركة النهضة ذات الأغلبية الحاكمة على السيطرة على دور العبادة.

أما مسألة إدراج الدين الإسلامي في الدستور القادم كمصدر أساسي للتشريع فهي مسألة ليست ذات شأن بالنسبة له، ويتابع “إن الأوضاع في تونس تستلزم التوافق لتحقيق المصلحة العامة”. ولكنه أيضا يعلن صراحة أنه مناصر لتطبيق الشريعة الإسلامية على المدى الطويل “ومن خلال التدرج”، وتطبيق الشريعة يفترض من وجهة نظره توحيد التونسيين على “كلمة الله” وليس تفرقتهم.

النصف المملوء

التسليم بمكتسبات المجتمع الحديث ورفضها ضمنيا في آن واحد، ميزة تكاد تطبع كل ما يقوله زكرياء. فعلى سبيلا المثال يرفض زكرياء إكراه النساء على ارتداء الحجاب ويقول أن المسألة حرية شخصية، لكنه وفي الوقت نفسه يبدى أسفه “لعدم التزام النساء باللباس الشرعي” ويتمنى أن “يهديهن الله” كما سبق وأهدى زوجته إلى ارتداء النقاب.

وبمقدار ما ينتقد زكرياء أبناء جلدته يبدو مستاءً أيضا من الصورة النمطية عن السلفيين التي تنتجها الصحف والمحطات الفضائية بعد الثورة، التي تصورهم على أنهم وحوش قادمون من مجاهل التاريخ للقضاء على حقوق النساء والمجتمع المدني. ويقول هنا إن وسائل الإعلام لا تقدم النصف “المملوء” من الكأس السلفي. النصف الذي يرحب في التعايش والتجاور مع مجتمعات أخرى. النصف الذي يمثله زكرياء شخصيا.

أعيش الحاضر

الفضل في قبول زكرياء للآخر كما يفسره يعود إلى تكوينه الأكاديمي، فقد تابع دراسة القانون بتونس العاصمة قبل أن ينقطع عنها بسبب سجنه لمدة سنة، وهناك اختلط بمن هبّ ودبّ من الأمزجة الشعبية والسياسية.

أما قصة سجنه التي لا يرغب في الخوض في تفاصيلها المؤلمة، فكانت على خلفية ما يعرف بأحداث سليمان، وهي مواجهة مسلحة وقعت بين قوات الأمن ومجموعة من المنتسبين لتنظيم القاعدة في منطقة سليمان في ولاية نابل على الساحل التونسي (60 كلم عن العاصمة)، أسفرت عن مقتل أعضاء المجموعة وعدد من رجال الأمن.

عند هذه النقطة تحديدا يتوقف زكرياء عن الحديث عن هذا الماضي، ويقول بصوت خفيض بينما يحافظ على ابتسامته “أنا أفضل أن أعيش الحاضر”. نسأله أي حاضر فيجيب بأنه حاضر الثورة ويضيف أن أهم ملامح هذا الحاضر هي حرية التعبّد وانتهاء الملاحقات الأمنية للمتدينين ووقف العمل بقانون الإرهاب الذي حوكم به.

لكن زكرياء يعتبر أن أهم مطالب “الثورة” لم تتحقق بعد، فالتنمية والتشغيل وتحسين ظروف حياة المواطنين كلها لم تنجز بعد، والسبب في ذلك تعدد الملفات المفتوحة وانشغال “الجميع” بصراعات وهمية على الكراسي والمناصب.

ابتسامة سلفية

حافظ زكرياء على ابتسامته طوال حواره مع “مراسلون” ولم يمنع نفسه من المزاح مع العاملين معه في المتجر، قبل أن يعود إلى الحديث معتذرا عن “انشغاله بالمزاح” الذي يبقيه متفائلا بمستقبل أفضل له ولابنه الذي يأمل أن يعيش في كنف دولة تطبق الشريعة الإسلامية وتحترم مواطنيها.

زكرياء عاد واعتذر ثانية عن عدم مواصلة الحوار فوقت الصلاة قد حان، دون أن يطرح على مجالسيه سؤال “هل ترافقني إلى المسجد؟”.