في تاريخ الفراعنة، كان عبور الجانب الغربي للنيل بصعيد مصر، مرتبطا برحلة الموت، ينتقل الميت في موكب جنائزي إلي غرب الشمس الأبدية، حيث تقع على البر الغربي مقابر تلك الحضارة. اليوم ينتقل الطفل هادي ذو الخمسة عشر ربيعا إلى نفس الشاطئ يوميا، ليعمل في مهنة الموت السريع. فجبال البر الغربي بين أسيوط والمنيا أصبحت كنزا لرأسمالية لا تعرف براءة الطفولة، بل هي علي استعداد في سبيل استخراج الحجر الأبيض إلى تعميد جبالها بالدم.

في تاريخ الفراعنة، كان عبور الجانب الغربي للنيل بصعيد مصر، مرتبطا برحلة الموت، ينتقل الميت في موكب جنائزي إلي غرب الشمس الأبدية، حيث تقع على البر الغربي مقابر تلك الحضارة. اليوم ينتقل الطفل هادي ذو الخمسة عشر ربيعا إلى نفس الشاطئ يوميا، ليعمل في مهنة الموت السريع. فجبال البر الغربي بين أسيوط والمنيا أصبحت كنزا لرأسمالية لا تعرف براءة الطفولة، بل هي علي استعداد في سبيل استخراج الحجر الأبيض إلى تعميد جبالها بالدم.

وسط ذرات الحجر الجيري المتطايرة، حيث يكسي اللون الأبيض مشهد الأرض والسماء، وتحت شمس لا تعرف الرحمة، وصلنا إلى محجر الشرفا غرب نيل المنيا، بحثا عن الطفل هادي. السعال من حولنا لا ينقطع، ويصبح المرء جزءا من أوركسترا الهواء الفاسد، فتكتسي ملابسه فورا باللون الأبيض، فيما تكاد تنفجر الآذان من صمم المناشير الكبيرة التي تعمل أسنانها بلا توقف في جسد الجبل. أحسنا إختيار الوقت، فجزء من العمال يتناول وجبة بسيطة اخرجوها من أكياس بلاستيك، ووسطهم وجدنا هادي ورفاقه.

كهل في الخامسة عشرة

يطالعك هادي من بعيد كطفل لم يتجاوز العاشرة، لكنه الشقاء هو ما يقزّم ذلك الطفل في أسمال بائسة حاول أن يحمي بها جلده من حمام الجير المتطاير حوله. بشرته السمراء مكتسية باللون الأبيض، ونظارته الرخيصة التي تحميه من العمي تصنع حزا بين درجتين من الألوان الشاحبة. إنه في الخامسة عشر منذ أيام، لا يجد وقتا في هذا الفاصل ليلعب مع رفاقه الخمسين في المحجر، مثله مثل آلاف الأطفال العاملين في نحو 500 محجر في البر الغربي.

“أعمل مساعد (شكال)، أي في مرحلة تحويل بودرة المحجر إلى طوب، وأتقاضى يوميا 50 جنيه مقابل العمل وردية من 12 ساعة. أسكن في قرية الشرفا المقابلة لهذا البر في البر الشرقي. تركت المدرسة قبل عام، فأبي مريض ويرقد في المستشفي، ولدي أخت كبرى تجلس في المنزل دون عمل بعد تخرجها من الجامعة”.

أوضاع عمل مزرية

يسعل هادي بشدة، ويبصق بلغما من التراب، أحاول الإطمئنان علي صحته فيؤكد أن صحته سليمة، محاولا أن يتشبث برجولة مبكرة أمام الكبار، الأخيرون لا يتركون الفرصة فيتدخل أحدهم في الحوار قائلا: “هذا ليس صحيحا، نحن هنا نموت موتا بطيئا، كلنا مصابون بأمراض صدرية، ونتعرض لخطر العمى من التعرض للبودرة، بل ويموت منا الكثير تحت أسنان ماكينات التقطيع التي غالبا ما تفلت فتقسم العامل إلي قسمين، كذلك نتعرض لصعق كابلات الضغط العالي المكشوفة من حولنا”، يقطع هادي شكوى العامل

[ibimage==1542==Small_Image==none==self==null]

سعيد إبراهيم

سعيد إبراهيم ويسألني: “هل أنتِ من وزارة الصحة؟ لقد أنقطع التفتيش علينا منذ فترة، كانوا إذا حضروا وزع علينا صاحب المحجر اللبن وبعض القفزات والأحذية والنظارات الجديدة، لم يعد أحد يسأل عنا”.

حقوق إنتفاع محاجر البر الغربي تعود لمجموعة من المستثمرين، بعضهم أسماء كبيرة في صناعة الدواء، أو أصحاب مصانع لمستلزمات البناء، يحصلون علي عقود الإستغلال من القوات المسلحة التي تملك قانونا كل هذه الجبال. يقول الطفل عبدالله صديق هادي: “لا يحضر أحد من مكتب العمل، مات منا ثلاثة العام الماضي، وقبض صاحب المحجر التعويضات ولم يسلم أهل الموتى شيئ. الموت بيد الله، لكن على الأقل من حق أهلنا أن يحصلوا على التعويض حال موتنا…أليس كذلك؟”.

“أتمنى أن أعود إلى المدرسة”

يستكمل هادي حواره قائلا:” لا نقابات ولا منظمات أهلية، كل فترة يأتي صحفي مثلك، يسألنا نفس الأسئلة ويختفي. تركت المدرسة لأن شهادة التعليم لم تفد أختي، ظلت تبحث عامين عن عمل. كنت في الصف الثاني الإعدادي، أذهب فقط في الإمتحانات، وأدفع مبلغا ماليا مقابل الغياب وأدخل الإمتحانات وأنجح، لكن أهلي لن يعيشوا بالشهادة التعليمية. الثورة صنعت مشاكل بين الجيش والشعب، ربما هي السبب في تعيين ابن عمي، لكن البلطجية والحرامية زادوا، أنتم في مصر تقولون الجيش والشعب يد واحدة، والجيش هنا يأخذ منا إتاوات للوصول إلى المحاجر، بالطبع أتمنى أن أعود إلى المدرسة وأصبح مهندسا، بشرط أن أجد عملا محترما بعد الشهادة، لو حققت الثورة تشغيل أختي وعلاج أبي سأنزل من الجبل، أريد أن أعود للعب مع اصدقائي في البلدة”.