عند مداخل قرى (22) و (30 بصار) و(38 و39 درافيل) بمركز بلقاس (شمال القاهرة)، وعلى ضفاف ترعة البصار الجافة والمتحكمة في ري أراضي نصف مليون أسرة، تمتد مأساة طبيعية وإنسانية لمئات الآف من الأفدنة المتحجرة والزراعات المحترقة تحت شمس الصيف.

عند مداخل قرى (22) و (30 بصار) و(38 و39 درافيل) بمركز بلقاس (شمال القاهرة)، وعلى ضفاف ترعة البصار الجافة والمتحكمة في ري أراضي نصف مليون أسرة، تمتد مأساة طبيعية وإنسانية لمئات الآف من الأفدنة المتحجرة والزراعات المحترقة تحت شمس الصيف.

يصحبنا في جولتنا بأرض المأساة هذه طه محمد عبد القادر مدير جمعية الطليعة الزراعية، والذي يقول: “جمعيتنا شكل تعاوني يشرف علي 11 قرية من بين 44 قرية هي قرى الحفير، وهي مناطق استصلاح زراعي منذ أربعين عاما ترويها ترع البصار وكوم التبن والدرفيل والنقعة، وهي كما ترى جافة في عز زراعة الأرز، وهذه القرى تنتج سنويا نحو 320 ألف طن أرز أي قيمة ثلث إنتاج مصر من الأرز، وأزمة العطش وإتلاف المحصول تتجدد كل عام في فصل الصيف بلا مبرر”.

معاناة مستمرة

تنتهج الدولة سياسات مائية جديدة تحاول ترشيد استهلاك المياه، وتستهدف بالأساس الزراعات كثيفة الاستخدام لمياه الري وفي مقدمتها الأرز، المحصول الأكثر شرها في استهلاكه لمياه الري، مما دفع فلاحي شمال الدلتا التي تجود بها زراعته للتظاهر بشكل مستمر ضد سياسات الدولة المائية، فأراضيهم مستصلحة من الصحراء، ولا يصلح بها إلا زراعة الأرز لارتفاع ملوحتها، كما أن الأرز هو المحصول الوحيد المربح ولو نسبيا في ظل دورة زراعية تلزم الفلاحين بتوريد القمح وخلافه بأسعار زهيدة.

أمام الأرض الجافة والمتشققة في قرية الحفير قابلنا المزارع أحمد رمضان، والذي صارحنا بالشكوي التالية: “أملك فدانا ونصف أزرعهم منذ عام 1980 أرزا كل عام، ومنذ عام 1996 بدأت معاناتنا من الجفاف، مع تهميش متعمد من إدارات الزراعة في مدينة بلقاس، تصل إلينا مياه مصرف كوتشينر شحيحة وسامة وممتلئة بمخلفات المصانع، ويمتنع المسؤولين عن فتح المصارف لنا”.

يقاطع حديثنا فلاح آخر هو أحمد عبد السلام مشيرا إلى ملمح آخر للأزمة، فهو يرى أن حرمان أراضيه يأتي لحساب قطع أراضي المستثمرين ورجال الأعمال الكبار، وكأننا -وفقا لقوله- عدنا لزمن الإقطاع، فالأراضي استصلحت بالأساس لزراعة الأرز حين كانت الدولة تشجع الفلاحين علي زراعته، أما الآن ومع سيطرة تجار الأرز وارتفاع قيمة الأرز المصري في التصدير وفتح الأسواق لتجار آخرين يجلبون الأرز من شرق آسيا، يدفع الفلاحون ثمن سياسات الاحتكار والتصدير.

المهندس حمدي عمران أحد ملاك قطع أراضي جافة يلفت الانتباه إلي عامل آخر حين يقول: “في مثل هذه التوقيت من كل عام تذهب مياه النيل المحرومين منها إلى البحر المتوسط هدرا، تتحكم في أراضينا مياه “هادر جمصة”، وفيما ارضنا ومحاصيلنا تجف، تحتجز مياه “هادر جمصة” لصالح أصحاب المزارع السمكية من كبار التجار المياه التي نحرم منها والمليئة بالمخصبات والدافئة ليستفيد بها تجار السمك، وقد قامت معركة مسلحة مات علي أثرها شابين من قرية مجاورة حينما حاول المزارعين فتح بوابة الهدر لري أراضينا، وأطلق مسلحون تابعون لمافيا تجار السمك النار عليهم، ولم تحقق الشرطة بل حمت التجار والمسلحين”.

انتقادات للسياسات المائية الحكومية

نقلنا اتهامات الفلاحين إلى مديرية الري بغرب المنصورة(عاصمة محافظة الدقهلية)، وبعد رفض مسؤولي الري الحديث اشترط أحدهم عدم ذكر اسمه مقابل التصريح بأن هناك بالفعل سوء توزيع للمياه في هذا القطاع، سببه استصلاح أراضي جديدة في منطقة كلابشو القريبة، فأضيف نحو 30 ألف فدان دون أن تزيد مقدرات المنطقة مائيا، فيما يحتاج “هدار جمصة” إلى محطة رفع تكلف 30 مليون جنيه وقد قدمت مديرية الري دراسة للحكومة لحل الأزمة لكن لا أحد تحرك. وأضاف المسؤول إن المديرية غالبا ما تضطر تحت ضغط الأهالي كل عام إلى فتح المياه ثلاثة أيام لمصرف كوتشينر، لكن الفلاحين من جانبهم يصممون علي زراعة الأرز لأنه مربح، ومع تحرير الدورة الزراعية الإجبارية توسعوا أكثر في زراعته، حيث لم توفر لهم الدولة زراعات بديلة واقتصادية، وفقا لما قاله أحد المسؤولين في مديرية الري.

بين اتهامات الفلاحين وتنصل الدولة من مسئوليتها حاولنا فك الاشتباك عبر رأي خبير زراعة الأرز أحمد صالح، والذي أشار إلى أن الأزمة رغم تخسيرها للفلاحين إلا أن ما ينجو من محصول يعوض الخسائر، فالفدان الواحد ينتج 4 طن أرز، ويصل سعر بيعه إلى نحو 1500 جنيه(250 دولار أمريكي)، لكن احتكار كبار التجار في القاهرة له يرفعه إلى 3000 جنيه للطن(500 دولار أمريكي)، فمع تجويع السوق وسياسات التصدير يكسب التجار لا المزارعين للأسف.

خبير علم اجتماع الريف المصري حسنين كشك يعترف بأن مصر بالفعل نزلت تحت خط الفقر المائي، لكن الأزمة أن ثمة توزيع غير عادل للمياه أصلا على المستوي القومي، فكيف -وفقا لرأيه- نمنع الماء عن المحاصيل فيما تهدي الدولة المياه مجانا لملاعب الجولف في مناطق السكن المرفه، كما أن السياسة المائية مرتبطة غالبا بسياسات الدولة للزراعة والتي يتحكم فيها مساحة وإنتاجا البنك الدولي، ويعمد البنك كمؤسسة رأسمالي كبري حرمان مصر من الاكتفاء الذاتي من الغذاء كما يحدث في القمح، ولا تبدو أزمة الأرز بعيدة عن هذا المنحى.