“على نفسها جنت براقش”. هذا المثل العربي ينطبق على الحكومة التونسية بعد أن تفجرّت الأحداث وتوتّر المشهد السياسي مؤخّرا في البلاد. فقرار تسليم البغدادي المحمودي، آخر رئيس وزراء في ليبيا قبل سقوط نظام القذافي، كشف عمق التصدّعات في الائتلاف الحاكم الذي يضم فضلا عن حزب النهضة الإسلامي، حزبي التكتل (يسار الوسط) والمؤتمر (وسط).تصدعات لطالما حاولت أحزاب الترويكا مواربتها وإخفاءها، تحت قناع البروتوكول والابتسامات الديبلوماسية والدفاع المستميت عن الخيارات السياسية للشركاء حتى لو تنافت مع المرجعيات والخلفيات الإيديولوجية.

حزب الرئيس

“على نفسها جنت براقش”. هذا المثل العربي ينطبق على الحكومة التونسية بعد أن تفجرّت الأحداث وتوتّر المشهد السياسي مؤخّرا في البلاد. فقرار تسليم البغدادي المحمودي، آخر رئيس وزراء في ليبيا قبل سقوط نظام القذافي، كشف عمق التصدّعات في الائتلاف الحاكم الذي يضم فضلا عن حزب النهضة الإسلامي، حزبي التكتل (يسار الوسط) والمؤتمر (وسط).تصدعات لطالما حاولت أحزاب الترويكا مواربتها وإخفاءها، تحت قناع البروتوكول والابتسامات الديبلوماسية والدفاع المستميت عن الخيارات السياسية للشركاء حتى لو تنافت مع المرجعيات والخلفيات الإيديولوجية.

حزب الرئيس

الترويكا الحاكمة ولدت متناقضة لأنها كانت “ضدّ” الطبيعة السياسية. فكل حزب من أحزاب الترويكا يدافع عن رؤية معينة ويتبنى فكرا مناقضا لفكر الحزب الآخر.

تبشّر حركة النهضة ذات المرجعية الإخوانية بمشروع حضاري يناقض من حيث المبدأ قناعات حزب التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، الذي يدافع منذ انبعاثه عن مشروع دولة حداثية تنهل من المبادىء الكونية لحقوق الإنسان، وهو نفس التوجه، نظريا، لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي سقط رهين جناحه “المتأسلم” الذي دفع به إلى حضن الإسلاميين في عملية احتواء ممنهجة أفقدته بريقه كحزب مناضل.

أبرز رموز المؤتمر انشقوا عنه وأسسوا “حركة وفاء”، في حركة رمزية بدورها تؤكّد أن المنشقين مازالوا يتمسكون بأفكارهم” الأصلية”. هم يعتبرون أنهم تحملوا القمع والتعذيب من أجلها ولا يعقل أن تمحى اليوم “بجرة حبر نهضوية”، حتى وإن كان ذلك من خلال “صفقة سياسية” تمكّن من خلالها المنصف المرزوقي رئيس الحزب المستقيل من الظفر بمنصب رئيس الجمهورية. فهو بنظرهم لم يحصل إلا على لعب دور الرئيس صوريا، لأنه منزوع الصلاحيات مقابل أن لا يشق عصا الطّاعة للإسلاميين.

ورغم أن أحزاب حركة النهضة والمؤتمر والتكتّل عبرتّ بحماس في بداية حكمها عن خوض تجربة حكومة ائتلافية لأوّل مرة في تاريخ تونس الحديث وراهنت على النجاح في زمن الثورات، غير أن فترة الانتقال الديمقراطي هي من أصعب المراحل في تاريخ الشعوب التي عاشت تجارب مماثلة لذلك لم تكف الترويكا عن التعثّر والارتباك والاختلاف في حسم المسائل السياسية حدّ التناقض.

حرب الحقائب

كانت مسألة التفاوض حول إسناد أو توزيع الحقائب الوزارية بين الأحزاب الثلاثة مع انطلاق المشاورات السياسية بينها، بمثابة رأس فتيل النزاع. فالمناصب العليا في الدولة أسالت لعاب الشخصيات المفاوضة. وقد وجدت النهضة من خلال هذه المفاوضات التي سبقت تشكيل الحكومة، فرصة مواتية “لتدجين” القيادات الحزبية التي جلست لتقاسم الوزارات معها.

وحرصت النهضة على تحصين نفسها -مدعومة بأغلبيتها التأسيسية- بوضع يدها على وزارات السيادة كالعدل والداخلية والخارجية مع الإبقاء على وزير الدفاع في حكومة الوزير الأول الأسبق الباجي قائد السبسي. إلا أن ما تبقى من وزارات كان في إطار “صفقة” المحاصصة الحزبية للحقائب الوزارية، صفقة كانت النهضة تديرها باقتدار ولم تترك مجالا للمناورة وسعت من خلالها إلى إرضاء مفاوضيها أكثر من إرضاء شركائها في الحكم رغم أنهم يمثلون حزبي المؤتمر والتكتّل.

وولّد تقسيم هذه “الغنيمة السياسية” حنقا مكتوما لدى باقي مناضلي حزبي المؤتمر والتكتّل. فكانت بداية “لتلغيم” البيت الداخلي لهذين  الحزبين خاصة مع بداية بروز استياء بعض القيادات الحزبية من نصيب أحزابها من الوزارات.

نشر الغسيل

ولئن حاول حزب التكتّل الذي حصل زعيمه على رئاسة المجلس التأسيسي تطويق “الغضب” الداخلي، فإنّ جمرة الغضب خمدت ولم تنطفىء لتطفو على السطح من جديد في شكل انسحابات لقيادات سياسية بارزة في حزب التكتّل على غرار صالح شعيّب رئيس جامعة سوسة. وبدا حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الأكثر قابلية للتصدّع والانشقاق غداة تشكيل حكومة الترويكا، ليتحوّل الصراع الداخلي إلى اتهامات علنية بين رموز الحزب وأقطابه.

ولم يتورّع بعض قيادات الحزب ونوابه بالتأسيسي على نشر الغسيل الداخلي في المنابر الإعلامية ليبلغ الخلاف أشدّه بين وزير التشغيل عبد الوهاب معطر وعبد الرؤوف العيادي الذي انشق فيما بعد وكوّن صحبة رفاقه المنسحبين “حركة وفاء” حيث وقع تبادل اتهامات خطيرة تمسّ من سمعة الحزب ورصيده الأخلاقي بين أنصاره. لتصبح في النهاية قيادات حزب المؤتمر من أجل الجمهورية موزعة بين وزراء في الترويكا والفريق الاستشاري لرئيس الجمهورية وحركة وفاء التي يعتبر المنتمون لها أنهم من مناضلي الحزب الذين تمسكوا بقناعات الثورة وخيّروا التخلّي على “وجاهة سياسية صورية”.

تمرّد مستشاري الرئيس

منذ أوّل جلسة بالمجلس التأسيسي للبتّ في فصول التنظيم المؤقت للسلط العمومية أو ما يسمّى بـ “الدستور الصغير” دافعت المعارضة بشراسة عن صلاحيات الرئيس التي انتزعتها حركة النهضة ودعّمت بها صلاحيات رئيس الحكومة الذي يملك في النهاية زمام السلطة والتحكّم في دواليب الدولة.

ورغم أن المرزوقي بدا خانعا لأحكام الشريك السياسي القوي إلاّ أن المعارضة تمكنّت أخيرا من افتكاك بعض الصلاحيات له والتي بقيت مقيدة في غالبها بموافقة رئيس الحكومة لكن بعد أسابيع من الممارسة الفعلية للحكم في اطار الترويكا أحست رئاسة الجمهورية أن البساط مسحوبا بصفة نهائية من تحت أقدامها بل إن رئيس الجمهورية أصبح محل تندّر خاصّة على مواقع التواصل الاجتماعي.

ولعلّ هذه الصلاحيات المنزوعة استفزت مستشاري رئيس الجمهورية ليستقيل بعضهم وآخرهم المستشار الإعلامي أيوب المسعودي. ويردّ البعض الآخر الفعل بقوة إعلاميا من ذلك أن الناطق باسم رئاسة الجمهورية عدنان منصر المشهود له بالرصانة والكياسة لم يتمالك نفسه وكتب مقالا ناريا في أحد أبرز المواقع الالكترونية تحت عنوان “حتى لا تحفر الحكومة قبرها وقبر الثورة” وهو المقال الذي أقضّ مضجع الترويكا وشكّل بداية الخلاف المعلن بين الرئاسة والحكومة.

ورغم اعتذار منصر فيما بعد عمّا كتبه معتبرا نفسه قد أخل بواجب التحفّظ الذي يلزمه كناطق باسم رئيس الجمهورية، ورغم هذه المحاولة لنزع فتيل الخلاف فإنّ الوضع انفجر من جديد مع تسليم البغدادي المحمودي  أو “تهريبه” الى ليبيا دون علم أي طرف حتى عائلته حيث تلقت الحكومة نقدا لاذعا لما اعتبرته الرئاسة “تعسّفا في استعمال الحق وتعديا سافرا على صلاحيات رئيس الجمهورية”.

وتواصلت أزمة الترويكا مع استقالة محمّد عبو أمين عام حزب المؤتمر من منصبه كوزير مكلّف بالإصلاح الإداري احتجاجا على صلاحياته المحدودة.

ورغم “تغليف” الاستقالة بالكثير من الديبلوماسية الاّ أن الأمور لا تبدو مطمئنة في بيت الترويكا خاصّة مع تلك “المعركة “حامية الوطيس في التأسيسي حول طبيعة نظام الحكم القادم في تونس-والذي تستبسل النهضة في جعله نظاما برلمانيا-علما أن زوجة محمّد عبو الأستاذة سامية عبو عضو المجلس التأسيسي هي من أشعلت فتيل الخلاف.

كل ذلك يجعلنا نتساءل كما تساءل رئيس الجمهورية المؤقت “تونس الى أين؟” نحن نسأله بدورنا، الترويكا إلى أين؟