كان الإرهاب الفكري في الأنظمة الشمولية محوراً وبرزخاً لانتقال تلك الأنظمة من الرومانسية الحالمة إلى الاستبدادية الظالمة، لكن الإرهاب الفكري الفاصل بين الحالتين لا يمكن أن يتضخم إلا بوجود “مشروع فكري” للنظام الشمولي يُطرح كحل وحيدٍ لا بديل له.

الشواهد عدة هنا، من حلم الشيوعية فاستبداد أنظمتها، إلى تطلعات العمال الاشتراكيين فطغيان النازية، ومن جمالية التنظير البعثي القومي إلى استبداده، ومن أحلام الثورة الإيرانية إلى تنحية الشاه وتنصيب الفقيه، في صفحات هذا التاريخ السياسي تكمن معاناة الشعوب.

كان الإرهاب الفكري في الأنظمة الشمولية محوراً وبرزخاً لانتقال تلك الأنظمة من الرومانسية الحالمة إلى الاستبدادية الظالمة، لكن الإرهاب الفكري الفاصل بين الحالتين لا يمكن أن يتضخم إلا بوجود “مشروع فكري” للنظام الشمولي يُطرح كحل وحيدٍ لا بديل له.

الشواهد عدة هنا، من حلم الشيوعية فاستبداد أنظمتها، إلى تطلعات العمال الاشتراكيين فطغيان النازية، ومن جمالية التنظير البعثي القومي إلى استبداده، ومن أحلام الثورة الإيرانية إلى تنحية الشاه وتنصيب الفقيه، في صفحات هذا التاريخ السياسي تكمن معاناة الشعوب.

لم يحِد القذافي عن هذه الداروينية المعكوسة، فلطالما تحولت السيرة التاريخية لهذه الأنظمة من حلم الإنسان إلى حقيقة القرد. انتقل القذافي من حلم القومية الاشتراكية إلى ما أسماه بالنظرية الجماهيرية التي تمثل “الحل النهائي” للبشرية حسب رأيه، بالتالي مهَّد للاستبداد السياسي المرتكز على الإرهاب الفكري، فحسب قوله “من تحزَّب خان”، ومن يرى حلاً غير النظرية الجماهيرية يشنق في الميادين.

النظرية الجماهيرية التي ابتكرها القذافي في السنوات الأولى بعيد استيلاءه على السلطة، وفرت له ميزة أخرى، فهي تمايزه عن زملاءه في مجلس قيادة الثورة، فقد قاموا بانقلاب عام 69 معاً، لكنه قدم النظرية وحده، ومادامت النظرية قد أصبحت ركيزة الحكم، فهو وحده مرجعية الحكم والتشريع، صاحب النص الذي يفسره ويستدعيه ويغيّبه متى شاء.

 بذلك استطاع القذافي أن يمتاز عن كل تلك الأنظمة بإضافة مرشحات جديدة تركز الحكم في شخصه، حتى أصبح قدر ليبيا، ماضيها المبتور منه ما عداه، والحاضر الذي لا أحد فيه سواه، والمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله.

فهل يموت القدر؟

آلاف من المؤيدين للقذافي أو المتورطين معه لم يستوعبوا صدمة موته، حتى أنهم روّجوا لروايات عدة، تقضي مجملها بأن القذافي لم يمت، أو أنه مات وسيعود للحياة!

من هذه الروايات مثلاً رواية تقول بأن القذافي لم يقتل، ولكن شبه لهم (لنا)، وأن صور موته مفبركة!

الرواية الثانية تسلّم بأنه مات، ولكن أنصاره وحوارييه النبلاء المقاومين للعدوان الصليبي (بقيادة قطر!)، قاموا بشراء حقنة كلفتهم ملايين الدولارات، وحقنت بها جثة القذافي في الصحراء، فلم يحيا. لكن رجله تحركت، ما يعني بأن هناك أملاً في عودته حياً، وقيادة المقاومة  ضد شعبه الذي يحبه، وقتله في آخر المطاف، ثم تحوَّل هذا الشعب العاق من عبادة الفرد إلى طريق الضلالة، طريق تداول السلطة.

أنا لست هنا في باب الاستهزاء، أنا هنا فقط في باب التساؤل.

لماذا لا يسلم هؤلاء بالموت النهائي والمؤكد والموثق للقذافي، ولماذا يصرون على إقحام الخرافة ودعوتنا إلى الضحك؟

لقد اختصر القذافي ليبيا في شخصه، ولم يكن موته أحد الأمور المحتملة في ليبيا، فقد تعرض للعشرات من محاولات الاغتيال وباءت جميعها بالفشل، قُصف من قبل الأمريكان ولم يمت، وعندما قام أحد المجندين من قبل المخابرات الانجليزية حسب رواية النظام عام 1996 برمي قنبلة يدوية على القذافي، لم تنفجر!!، وقام الأخير بركلها وهو يبتسم في مشهد مسرحي يعزز حالة ذهنية تؤكد استحالة اغتياله.

الحقيقة هي أن القذافي تعرض لعدد كبير من محاولات الاغتيال، لكن روايات الأركان المنشقة عن حكمه تقول بأن عدداً من تلك المحاولات لفقها بنفسه لإيجاد مسببات أمام حاشيته لتصفية ضباط بتهمة التخطيط لاغتياله، ولكنها في ذات الوقت ساهمت في تبديد أحلام المتطلعين لقتله، وإزالة هذا الاحتمال من مخيلتهم.

ومع أن القذافي تعرض لأزمات صحية كبيرة، إلا أن نظامه حرص على تعتيمها أو التقليل من شأنها في حال تسربت للإعلام، فهو دائماً بصحة جيدة، ليس ذلك فقط، القذافي لا يشيخ أيضاً، مع أن بشرته سريعة الترهل بسبب عوامل وراثية وبيئية ربما، فالقائد يستخدم حقن البوتكس لمكافحة التجاعيد، ويصبغ شعره باستمرار، وبالتالي لايوجد داعٍ لأخذ أي تدابير لنقل السلطة في ليبيا، ففي ليبيا لايوجد كرسي حكم شاغر، بل يوجد رجل شاغر لكل الكراسي، إضافة إلى ذلك فإن هذا الرجل لايموت.

فكرة موت القذافي أو اغتياله استؤصلت من الحالة الذهنية الجمعية، وحضور القذافي خرج مبكراً عن الإطار التنظيري التشريعي لشكل الدولة، ودخل باب النجومية الفردية، فهو المفكر والأديب والقاص والشاعر والمهندس وعارض الأزياء، لكن عدم قبول حالة غيابه عند أعوانه أدخله باباً جديداً، باب الخرافة. 

إليكم هذه القصة الطريفة، ولحسن الحظ فهي قصيرة جداً.

كان “طَموح” وهو أحد أصدقائي يقيم في شقة بمنطقة باب بن غشير بطرابلس، وفي صباح أحد الايام عام 2006 هرع من نومه وهو يسمع أصدقاءه يطرقون باب الشقة بشدة ويصرخون “افتح يا طموح، افتح”، جاء طموح مسرعاً إلى باب الشقة وفتح الباب “ماذا هناك؟”، أجابوه: “معمر مات يا طموح، معمر مات!!”.

وساد الصمت..

ساد الصمت إلى أن انفجر أصدقاؤه بالضحك، كان مقلباً، لكن “طَموح” أجابهم وعلامات السعادة على وجهه، لقد جعلتموني أعيش لحظة رائعة قد لا تتاح لكم الفرصة لعيشها في حياتكم.

“طموح” يعيش هذه الحقيقة اليوم، لكن للأسف لا زال آخرون يلجؤون للخرافة كآخر كوب وهمٍ في بحر أوهامهم، بنهاية ذلك الكوب، سيساورهم الشك ويتساءلون.. هل مات القذافي؟.