لا يتلقّى أحمد مساعدة من أحد. لا تهمه وظيفة ولا منحة تعليمية ولا زيادة في الراتب. لا تصله جريدة ولا يتابع محطة تلفزيونية ولا يعرف ما هي آخر تصريحات رئيس الحكومة. هذا الرجل الثلاثيني يملك نحو 100 رأس من الغنم يسرح بها في البوادي، يكتفي برعايتها وحلبها، ويعرف نفسه بفخر بأنه “غنّام” أبّا عن جد.

لا يتلقّى أحمد مساعدة من أحد. لا تهمه وظيفة ولا منحة تعليمية ولا زيادة في الراتب. لا تصله جريدة ولا يتابع محطة تلفزيونية ولا يعرف ما هي آخر تصريحات رئيس الحكومة. هذا الرجل الثلاثيني يملك نحو 100 رأس من الغنم يسرح بها في البوادي، يكتفي برعايتها وحلبها، ويعرف نفسه بفخر بأنه “غنّام” أبّا عن جد.

قبل أشهر كان أحمد يرعى بماشيته في أراضي ولاية زغوان (57 كلم شمال العاصمة) لكن ترحال هذه الصائفة استقر به في ربوع مدينة باجة شمال غربي البلاد. يقول لموقع “مراسلون” إن المنطقة هنا مناسبة جدا لرعي الأغنام، خصوصا بالقرب من سد سيدي سالم، أكبر السدود التونسية وأغناها من حيث كميات المياه المخزنة.

على غرار هذا الشاب، قدمت العشرات من العشائر البدوية من الجنوب التونسي القاحل، وتحديدا من سليانة وسيدي بوزيد وأحواز تونس، إلى الشمال الغربي الغني بمراعيه ومياهه، واصطحبــوا معهـم اطفالهم الرضع وشيوخهم ونصبوا خيامهم قرب الوديان والينابيع والسدود.

 

موت مبكر أو بطيء

 

تنطلق رحلة أحمد في الرعي مع ساعات الفجر الأولى، يرافقه عدد من الكلاب التي تشكل سياجا لحماية القطيع. ومع طلوع الشمس واقتراب الأغنام من الشبع يسترخي تحت احدى الشجيرات لينام قليلا قبل ان تشتد حرارة الشمس.

[ibimage==1124==Small_Image==none==self==null]

أحمد عازف عن الزواج 

على خلاف الكثيرين من البدو لم يكوّن أحمد عائلة بل لم يفكر أبدا بالزواج، فهو يخشى على أطفاله القادمين من حياة البوادي والصحارى، ويقول بنبرة لا تخلو من السوداوية “إن لم يكن الموت المبكر مصيرهم فسيكون الموت البطيء”. ويضيف بأن الطفل تحت هكذا ظروف بيئية قاسية سيكون بين خيارين: “إما مريضا فقيرا، وإمّا أميا جاهلا لا يفقه سوى الرعي”.

 

خارج الحضارة

يعيش رعاة الاغنام أو “الغنّامة” كما يطلق عليهم، في خيام يفصل بين الواحدة والأخرى أحياناً مئات الامتار. خيام مصنوعة من وبر الجمال، ركزت على أعمدة خشبيـــة، ووثّقت إلى الأرض بواسطة أوتاد غليظة وقضبان حديدية، وبين هذا وذاك وضعت أحجار كبيرة،. لكن الأكثر فقرا من الغنّامة كما هي حالة أحمد، يعيش في خيام نسجت من القطع البلاستيكية وبعض الألبسة البالية، يفترش النايلون وبعض الكراتين وأحيانا حصير بال او حشيّة تآكل سمكها وتحولت الى خرقة بالية.  

هناك أيضا من ينامون في زرائب الاغنام من شدة حرارة الطقس غير مكترثين بمخاطر الزواحف  والحشرات التي تنهش اجسادهم. إنها حياةٌ لا يقدر ابن ريف او مدينة على احتمالها، أو بحسب تعبير بدوي آخر يدعى رضا، “هي حياة خارج الزمن وخارج الحضارة”، يعلّق ضاحكا.

 

صديقي أقنعني بالانتخاب

 

لا تتوفر إحصاءات عن أعداد البدو في تونس ومناطق توزعهم، فالدولة لم تضع يدها على هذا الملف، ولم تبادر إلى إحصائهم أو تعمل على توطينهم، فيما هم ينتقلون حتى عبر الحدود الجزائرية التونسية والليبية التونسية.

القاسم المشترك بين معظمهم بحسب رضا، هو انهم لا يملكون أية وثيقة لإثبات الهوية، فعلاقتهم مع الدولة مقطوعة، لا يعلمون عنها شيئا ولا تعلم عنهم شيئا.

القليل منهم يعدّ على أصابع اليد الواحدة شارك في انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين أول (أكتوبر) 2011، لكنه لا يعرف لمن منح صوته، والنسبة الكبرى لا تربطها بمثل تلك المناسبات الهامة في تاريخ تونس أية علاقة. يقول رضا “أنا الوحيد في عائلتي يمتلك بطاقة هوية، وبالتالي أنا الوحيد الذي شارك في الانتخابات الماضية”.

عن كيفية مشاركته في الانتخابات يستأنف “أقنعني صديق لي وهو من الغنامة الميسورين بضرورة المشاركة وقال لي ان المشارك في الانتخابات يحق له مطالبة الدولة بالمساعدات. وقد وجهني يوم الانتخابات في عملية الاقتراع”. ويضيف بكل بساطة “في الحقيقة لا أعلم لمن منحت صوتي”.  

 

شقة بالعاصمة

 

تعتبر نبيلة (22 سنة) من القلائل المحظوظين في مجتمع الغنامة. فهي تنحدر من عائلة ميسورة وتدرس في إحدى جامعات العاصمة. وتقول في هذا الصدد “لأنني كنت ولا زلت ناجحة في دراستي بكلية الاقتصاد فقد اشترى لي والدي شقة سكنية بالعاصمة أقيم فيها صحبة شقيقي، ويزورني والديّ من حين لآخر ويجلبان معهما بواسطة السيارة كل ما نحتاجه من مستلزمات”.

وترى نبيلة أن الجيل الجديد الذي تتاح له فرصة العيش في المدينة يهجر حياة الغنّامة. “لقد أتيحت لشقيقي فرصة عمل في العاصمة فلم يعد يقبل بالعيش في البراري إلا مؤقتا. أما أنا فأعود أيام العطل لأساعد والدتي في الرعي وشؤون الخيمة”. وتستدرك نبيلة “رغم قساوتها تعجبني حياة البراري”.  

 

24 رأس غنم

 

أما شكري (32 سنة) فهو متزوج وأب لرضيع هو المولود الخامس الذي نجا من الموت الناجم عن عدم الاستقرار والتنقل وما يرافقه من حمولة. خلف خيمته يوجد العشرات من رؤوس الأغنام يظن الزائر أنها على ملكه لكن في الحقيقة شكري يمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة “الخمّاسة”، أي الذين يعملون مقابل حصولهم على خمس الإنتاج.

نصيبه من العمل السنوي المضني هو 24 رأسا من الاغنام وهو ينوي تجميع عدد معين ليتحول الى “غنّام”، أي مالك أغنام، بعد ان اختلف مع والده وهجره بصحبة زوجته الشابّة. وفي تصريح لـ”مراسلون” بين شكري أن المسؤولية تجعله اكثر خوفا على قطيع مشغّله خاصة في الليل لذلك يعوّل في الحراسة على عدد من الكلاب وهو يؤكد أن “لا فرق بين معاملتي لكلابي ومعاملتي لطفلي الرضيع”.

وفي ركن من أركان الخيمة تجلس سامية (24 سنة) قرينة  شكري التي تزوجت وهي في السابعة عشرة من عمرها. عن حياتها تقول “انا راضية بهذه الحياة رغم قساوتها”. وكانت سامية تتحدث وهي تحاول حماية رضيعها من الذباب وتلطيف الحرارة عليه حتى تمكنه من نوم هادئ ولو لبعض الدقائق. ولم تخف خشيتها على مستقبل ابنها الذي تتمنى أن يدرس وأن يتعلم وأن تنتشله من هذه الحياة الصعبة.

 

أفضل الغنّامة

 

وعلى بعد العشرات من الامتار توجد خيمة حميّد (48 سنة) وهو يعيش فيها منذ صباه. ويعتبر أن أسعد الفترات في حياته تلك التي استقر به وعائلته الترحال وأقام لمدة ثلاث سنوات قرب المدينة، حيث تمكن آنذاك ابناه من الالتحاق بمقاعد الدراسة. ولكن بمجرد أن انتقل الى مكان آخر اضطر ابناؤه للانقطاع عن الدراسة والانضمام إليه وامتهانهم الرعي.

يعتبره زملاؤه أفضل “الغنّامة” المنتشرين في هذه الربوع لأنه يملك تلفازا صغيرا يتم تشغيله بواسطة بطارية من خلالها يتابع وجيرانه  بعض المسلسلات والبرامج.

أما الخالة مباركة فهي أم لثلاثة ابناء لا تعرف عمرها ولا تملك بطاقة تثبت هويتها. أدوارها متعددة  فهي الطبيبة التي تداوي بالأعشاب كلما اشتكى احد افراد اسرتها وهي الأم التي تطبخ الطعام وتنظف الخيمة وترش الماء لتبريدها.  واحيانا قد تفرض عليها الحالة الصحية لزوجها تعويضه في الرعي.

مباركة لا تعرف التجميل ولا ادواته واعجاب الزوج بها يبدا من قدرتها على العمل ومساعدتها له.

 

أريد أرضا

 

العرب الرّحّل، يتزاوجون ويتوالدون بطرق الولادة التقليدية، يعيشون حياة قاسية بعضهم لازال يتمسك بهذا الأسلوب في الحياة على أنه أمانة الأجداد علقت في أعناقهم والبعض الآخر مجّ طريقة عيشه بعد أن اطلع على مظاهر الحياة المدنية، وبين هذا وذاك أمل الاستقرار يظل مطلبا مشتركا لأغلبهم.

كل ما يأمله أحمد على سبيل المثال هو ان يحصل على قطعة ارض من الدولة ومن تلك الاراضي المهملة التي كانت مسرحا لعائلات المافيا في عهد الرئيس المخلوع، وعلى أنقاضها يستقر ويتزوج كغيره من الشبان. “أريد أن أنجب أطفالا يدخلون المدارس ويستقرون، لا أن أعلّمهم هذه المهنة الشاقة” يقول لاهثا، بينما يهشّ بعصاه بضعة أغنام حادت لتوّها عن طريق الرعي.