استيقظ العالم صباح 14كانون الثاني (يناير) 2011 على صيحة الشعب التونسي “ارحل” او “ديغاج” بالفرنسية وسط شارع بورقيبة. هناك نزل الالاف بمختلف انتماءاتهم لطرد الديكتاتور وتجمعوا أمام وزارة الداخلية رمز القمع.

شارع الحبيب بورقيبة أو “لافيني” كما يحلو للتونسيين تسميته، أصبح منذ ذلك اليوم متنفّسا لطلاب الحرية. فزادت ﺭﻣﺰﻳﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟمكان ﻭﻗﻴﻤﺘﻪ الاستراتيجية والتاريخية، ﻭﺣﺘﻰ “ﻗﺪﺳﻴﺘﻪ” بالنسبة للتونسيين.

استيقظ العالم صباح 14كانون الثاني (يناير) 2011 على صيحة الشعب التونسي “ارحل” او “ديغاج” بالفرنسية وسط شارع بورقيبة. هناك نزل الالاف بمختلف انتماءاتهم لطرد الديكتاتور وتجمعوا أمام وزارة الداخلية رمز القمع.

شارع الحبيب بورقيبة أو “لافيني” كما يحلو للتونسيين تسميته، أصبح منذ ذلك اليوم متنفّسا لطلاب الحرية. فزادت ﺭﻣﺰﻳﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟمكان ﻭﻗﻴﻤﺘﻪ الاستراتيجية والتاريخية، ﻭﺣﺘﻰ “ﻗﺪﺳﻴﺘﻪ” بالنسبة للتونسيين.

ﻭهكذا تحول الشارع الممتد على 1500 متر طولا ﻣﻦ ﻣﺠﺮﺩ ﻣﻜﺎﻥ ترفيهي وتجاري إلى علامة رمزية على قمع السلطة مع زرع وزارة الداخلية وسطه والتي ساهمت في بث الخوف والرعب في نفوس التونسيين.

الوجه العصري للمدينة

ومنذ إنشاء ﻓﻲ ﺃﻭﺍﺧﺮ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ تعاقبت على رواده وقاطنيه ﺃﺣﺪﺍث ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻛﺒﺮﻯ أهمها ﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﺠﻴﺶ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻲ ﻓﻲ 8 نيسان (أبريل) 1881 ﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﺍﻟﺒﻼﺩ، ﻭﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﺠﻴﺶ ﺍﻻﻟﻤﺎﻧﻲ ﻟﻤﻄﺎﺭﺩﺓ ﺍﻟﻴﻬﻮﺩ ﻓﻲ ﺗﻮﻧﺲ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، ﺛﻢ ﺍﻟﺠﻴﺶ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻲ ﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﻌﺎﺻﻤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺯﻳﻴﻦ.

كما احتضن الشارع ﺧﻼﻝ ﻓﺘﺮﺓ حكم الحبيب ﺑﻮﺭﻗﻴﺒﺔ، أول رئيس لجمهورية تونس، محطات تاريخية هامة، كالمظاهرة التي خرج ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺘﻮﻧﺴﻴﻮﻥ ﺿﺪ ﺍﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﺧﻼﻝ ﺣﺮﺏ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻟﺴﺘﺔ، وكذلك احداث انتفاضة الخبز ﻓﻲ 3 كانون الثاني (يناير) 1984 التي تظاهر فيها الآلاف نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية بعد رفع دعم الدولة عن بعض السلع.

وﻟﻢ ﻳﺸﻐﻞ شارع الحبيب بورقيبة ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﻴﻦ ﻓﺤﺴﺐ، ﺑﻞ ﻛﺎﻥ ﺩﻭﻣﺎ ولا يزال ﻣﺤﻮﺭ ﺍﻫﺘﻤﺎﻡ ﻭمصدر ﺇﻟﻬﺎﻡ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺪﻋﻴﻦ والإعلاميين و المؤرخين.

ﻭﻳﻌﻮﺩ ﺗﺎﺭﻳﺦ هذا الشارع ﺍﻟﻰ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﺳﻨﺔ 1881 ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﺳﻤﻪ ﺷﺎﺭﻉ “ﺍﻟﺒﺤﺮﻳﺔ” ﺃﻭ ﻣﻨﺘﺰﻩ ﺍﻟﺒﺤﺮ، ﻭﻫﻮ ﻣﻨﺘﺠﻊ ﻛﺎﻥ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ “ﺑﺎﺏ ﺑﺤﺮ” في أقصى الشارع إﻟﻰ “ﺩﺍﺭ ﻓﺮﻧﺴﺎ” ﻣﻘﺮ ﺍﻟﺴﻔﺎﺭﺓ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﺣﺎﻟﻴﺎ.

ﻭﻳﺬﻛﺮ ﺍﻟﻤؤﺭّﺧﻮﻥ ﺃﻥ ﺩﺍﺭ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻭّﻝ ﺑﻨﺎﻳﺔ ﺗﻘﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﻤﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ، ﻣﻊ ﺩﺧﻮﻝ ﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻲ، ﺍﺳﻢ ﺟﻮﻝ ﻓﻴﺮﻱ، ﻭﻫﻮ ﻧﺎﺋﺐ رئيس ﻣﺠﻠﺲ ﺍﻟﻨﻮﺍﺏ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻲ.

ﻭمنذ ذلك الحين اﻣﺘﺪﺕ ﺍﻟﺒﻨﺎﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﻜﺎﺗﺪﺭﺍﺋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺤﻼﺕ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻘﺎﻫﻲ ﻭﺍﻟﺤﺎﻧﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﺭﺡ ﻭﻗﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﻭﺍﻟﻜﺎﺯﻳﻨﻮﻫﺎﺕ ﻭﺃﺭﻭﻗﺔ ﺍﻟﻔﻨﻮﻥ ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴﺔ ﻭغيرها.

ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺍﻟﻰ ﻏﺎﻳﺔ 1956 ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﻳﻌﻜﺲ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻌﺼﺮﻱ ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ ﺑﺄﻧﺸﻄﺘﻪ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺮﻓﻴﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻳﺔ، ﺣﺘﻰ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﻓﺮﻧﺴﺎ شبيهة بشوارعها الكبرى في طريقة المعمار. ﻭﻣﻊ ﺍﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﺗﻐﻴﺮ ﺍﺳمه ﺍﻟﻰ ﺷﺎﺭﻉ ﺍﻟﺤﺒﻴﺐ ﺑﻮﺭﻗﻴﺒﺔ وكان الشريان الرئيسي للعاصمة.

الشارع يقرأ

ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺷﺎﺭﻉ ﺑﻮﺭﻗﻴﺒﺔ ﺍﻵﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﻬﺮ ﺍﻟﺴﺎﺣﺎﺕ التي تحتضن تظاهرات فنية وثقافية مفتوحة لعل أطرفها تظاهرة “شارع الحبيب بورقيبة يقرأ” وذلك يوم 18 نيسان (ابريل)، وهو يوم اجتمع فيه التونسيون للمطالعة فقط فافترشو الأرصفة  يحملون في أيديهم كتبا كانوا يقرؤونها.  

كما ﻛﺎﻥ الشارع ﺯﻣﻦ ﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﻓﻀﺎﺀ ﺛﻘﺎﻓﻴﺎ ﻟﺘﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﻌﺮﻭﺽ ﺍﻟﻔﻨﻴﺔ وكان ﻳﻀﻢ ﺍﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﻗﺎﻋات ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﺻﺎﻟﻮﻧﺎ ﺃﺩﺑﻴﺎ مخصصا للنخبة الفرنسية.

ﻭﺷﻬﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻀﺎﺀ ﻋﻘﺐ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﻣﻴﻼﺩ ﻣﻬﺮﺟﺎﻥ ﺃﻳﺎﻡ ﻗﺮﻃﺎﺝ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎﺋﻴﺔ، ﺃﻭﻝ ﻣﻬﺮﺟﺎﻥ ﺳﻴﻨﻤﺎﺋﻲ ﻋﺮﺑﻲ ﻭﺍﻓﺮﻳﻘﻲ. وفي نفس الشارع ﺷﻬﺪ ﺍﻟﻤﺴﺮﺡ ﺍﻟﺒﻠﺪﻱ ﻣﻮﻟﺪ ﻣﻬﺮﺟﺎﻥ ﺃﻳﺎﻡ ﻗﺮﻃﺎﺝ ﺍﻟﻤﺴﺮﺣﻴﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﺪ ﺑﺪﻭﺭﻩ ﺃﻋﺮﻕ ﺍﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﻤﺴﺮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻭﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ. ﻭﺗﺤﻮﻝ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺑﻔﻀﻞ ﻫاتين ﺍﻟﺘﻈﺎﻫﺮﺗﻴﻦ ﺍﻟﻰ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﻛﺒﺮ ﺍﻟشوارع ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ.

ومما ﺯﺍﺩ ﺍﺷﻌﺎﻋﺎ لهذا الشارع الرمز وجود ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻘﺎﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻮﻟﺖ ﺍﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﺼﺎﻟﻮﻧﺎﺕ ﺍﻻﺩﺑﻴﺔ مثل مقهى باريس التي ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻮﻥ ﻭﺍﻟﻤﺒﺪﻋﻮﻥ ومقهى “لونيفار” (L’univers ) التي يجتمع فيها نخب اليسار التونسي.

ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﺎﻟﻢ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ جعلت من ﺷﺎﺭﻉ ﺑﻮﺭﻗﻴﺒﺔ مكانا يرمز للتسامح والتعايش السلمي بين جميع التونسيين ﻣﻨﺬ ﻋﻬﺪ ﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﻛﺎﺗﺪﺭﺍﺋﻴﺔ ﺗﻮﻧﺲ ﺃﻭ ﻛﻨﻴﺴﺔ ﺳﺎﻥ ﻓﺎﻧﺴﺎﻥ ﺩﻱ ﺑﻮﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻢ ﺗﺸﻴﻴﺪﻫﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 1897. فقبالة ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﺩﻋا ﺍﻟﺰﻋﻴﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ ﺍﻟﺤﺒﻴﺐ ﺑﻮﺭﻗﻴﺒﺔ ﺍﻟﻰ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﺗﻤﺜﺎﻝ ﻟﻠﻌﻼﻣﺔ التونسي ﺍﺑﻦ ﺧﻠﺪﻭﻥ (مؤسس علم الاجتماع) ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺤﺘﻪ ﺍﻟﻔﻨﺎﻥ التونسي ﺯﺑﻴﺮ ﺍﻟﺘﺮﻛﻲ.

شارع الأقبية والزنازين

ورغم عراقة شارع بورقيبة والحركية التجارية والثقافية التي يشهدها، فقد اتسم خلال فترة حكم بن علي بكبت الحريات الفكرية، وحرية التعبير التي تمزقت ليلة 14 كانون الثاني (يناير) بصيحة المحامي الناصر العويني المشهورة ودعوته الملحة لاستنشاق نسيم الحرية.

فشارع الحبيب بورقيبة مثّل في عهد بن علي رمز القمع البوليسي بوجود وزارة الداخلية التي شهدت أقبيتها ودهاليزها تعذيب المساجين السياسيين وكلّ من تسول له نفسه معارضة من يحكم بأمره.

وبعد الثورة تتالت المظاهرات في شارع بورقيبة الذي شهد تسجيل عدد قياسي في تنظيم المظاهرات منذ تأسيسه. فقد تم تنظيم 106 مظاهرة بولاية تونس أغلبها وسط شارع بورقيبة. ومنذ ذلك التاريخ أصبح المكان مركز كل التحركات السياسية والثقافية والترفيهية في قلب العاصمة.

ولئن أهدت الثورات العربية شعوبها أماكن أصبحت ملجأ لكل طالب للحرية أو باحث عن حق سلب منه كميدان التحرير في القاهرة أوباب العزيزية في طرابلس أو دوار اللؤلوة في البحرين فإن شارع بورقيبة ليس فقط رمز الثورة التونسية، إنما عصب العاصمة، وحاضن السياسية والثقافة فيها، وشريط ذاكرتها.