قضاء يوم مع سائحة ألمانية أفضل من ألف حديث ذي شجون عن السياحة. هكذا قررت أن ألقي التحية وأتعرف على إحدى الواقفات أمام بوابة المتحف المصري في ظهيرة يوم ملتهب من شهر رمضان.

 

قضاء يوم مع سائحة ألمانية أفضل من ألف حديث ذي شجون عن السياحة. هكذا قررت أن ألقي التحية وأتعرف على إحدى الواقفات أمام بوابة المتحف المصري في ظهيرة يوم ملتهب من شهر رمضان.

 

الأعداد في ساحة مدخل المتحف المصري تشير ببساطة إلي أزمة في السياحة المصرية. وسواء كان سببها الأوضاع الأمنية المنفلتة، أو الانطباعات السلبية التي تركتها حملة إعلانية تلفزيونية رسمية، اتهمت مجمل الأجانب بالتجسس على مصر، فإنها ظاهرة بوضوح في عدد السياح القليل مقارنة بالأعوام الماضية في مثل هذا الوقت.

 

معظم المتواجدين من الإيطاليين والكوريين، بالقرب من بوابة الدخول ألاحظ سائحة منفردة، بعد التحية والتعريف بهويتي الصحفية، أسأل “أجنيس” الثلاثينية المظهر عن بلدها فتجيب ألمانيا، تبتسم وتقبل أن أصاحبها في جولتها.

                      

زحام أقل في رمضان

 

حضرت “اجنس” قبل يومين إلى القاهرة لزيارة صديقة لها. وهي تعيش في مدينة هامبورج وتعمل خبيرة متاحف. استغلت “اجنيس” وقت رحلتها الضيق والمقتطع من إجازة قصيرة لزيارة ما تيسر من آثار ومعالم سياحية بالقاهرة. تتلقي تليفونا من صديقتها فينقطع حديثنا، ثم يتواصل بالحديث عن غرابة زيارة مصر في شهر رمضان، والذي تصفه بالوقت الخيالي، الطرق فارغة بلا زحام في الصباح الباكر، تستطيع التواجد بالمتحف لوقت أطول نتيجة قلة الزحام فتستطيع التركيز أكثر. أما ما يؤرقها واعتبرته بالتبعية يؤرق غيرها من غير الصائمين المسلمين فهو غلق المحلات، وتستعجب من وسط العاصمة الذي هو قبلة للسائحين فيما معظم محاله مغلقة بسبب الصيام.

 

[ibimage==932==Small_Image==none==self==null]

اجنس من ألمانيا مع المراسل مينا غالي

تسكن “أجنس” في شقة صديقة لها بحي جاردن سيتي القريب من ميدان التحرير، نخرج من جولة المتحف، يستقبلنا ميدان التحرير في لحظة ازدحام مروري عشوائي استثنائي ومؤقت، فمحيط الميدان بلا شرطي مرور واحد، تتحدث هي عن عدم إحساسها بالأمان قائلة: “الرجال عموما في مصر ينظرون إلي ويطيلون النظر، رغم أني كما تلاحظ ارتدي زيا طويلا وبأكمام، حتى المرشدين الجوالين هجموا علي في مدخل المتحف لدرجة أفزعتني، لا ينتمي هذا الميدان الآن لما رسخ في مخيلتنا عبر الإعلام أثناء الثورة. البائعون الجائلون يملؤونه، حتى الصينية الخضراء في منتصفه تحولت إلي كومة قمامة”.

 

فوضى الانفلات الأمني

 

نستكمل جولتنا فندخل شارع طلعت حرب من قلب الميدان، تتساءل عن معني انتشار هذا الحجم من المتسولين وتربطه غالبا بالأزمة الاقتصادية الطاحنة بعد الثورة، أحاول أن ابرر لها فكرة ظهور هذا العدد الكبير من الباعة الجائلين في وسط البلد بعد أن حررتها الثورة من الوجود الأمني فاكتسبت سمت الانفلات التجاري والعشوائي. نبحث عن مقهى نستكمل فيه أطراف الحديث، تطول بنا الجولة بين مقاه كانت حتي العام الماضي مفتوحة، منها مقهى الحرية السياحي الذي آثر أصحابه إغلاقه طول شهر رمضان هذا العام.

 

تعدد “أجنس” مزايا الثورة المصرية، كيف أطاحت بديكتاتور بحجم مبارك، ورغم وصفها للإسلاميين بالديكتاتورية الدينية إلا أنها لا تخشي علي مستقبل مصر، لا أعرف من أين يأتي الخوف والطمأنينة المزدوجة في نفس الجملة علي لسانها.

 

تتوقف “أجنس” عند أحد هؤلاء الباعة لتشتري وشاحا، تقيس أكثر من قطعة وتستشيرني حول أحسن الألوان، يطلب البائع منها 20 جنيها للقطعة، أحاول ألا أتدخل وأترك لها التصرف، تقول بالإنجليزية: “هذه مشكلة أخري في مصر، كل الناس يقولون هالو للأجانب، وبعضهم يسألني أن كنت أعرف العربية، لا أعرف إلا كلمتي:سلام ، معلش، ورغم ذلك يحاولون غالبا غشك في الأسعار”. ينتهي الجدل بينها وبين البائع بإشارة حازمة تعني “خمسة”، يوافق البائع والذي حاول توريطي في الأمر بادعاء أننا مصريون ويجب أن نخدم بعضنا البعض.

 

مسافة بين صورة الثورة وواقعها

 

عند ناصية ممر البورصة الشهير بمقاهيه بالقرب من ميدان التحرير، وجدنا مقهى نثر بعض كراسيه في عرض الطريق، جلسنا فإذا بالنادل يرفض جلوسنا بحجة الصيام. ملامح “أجنس” لا لبس في كونها أجنبية، وأوضحت له أني مسيحي. ثار في وجهي وسب الأجانب وسبني فهربنا من الموقف قبل أن يتطور الأمر بحضور جمهور من العابرين.

 

لم أحاول تبرير الأمر لأجنس، الموقف بدا محرجا للغاية، فاجئني لدرجة أنني طالبتها بالعودة لميدان التحرير، حاولت أن أجد لقطة تهون علينا مناخ العداء المحيط، اصطحبتها إلى شارع محمد محمود حيث جرافيتي الثورة، بدأت أحكي لها فيما تقارن هي بين ما رسمه فنانو الجرافيتي وجداريات الفراعنة التي درستها في الجامعة، كانت المسافة بين رموز الثورة المرسومة كمينا دنيال وما مررنا به مسافة كبيرة. ثم اتصلت صديقتها بها، كان لقاءهما عند هارديز ميدان التحرير، مشيت من هناك متوترا وقد أنتقل إليّ عبء تخيل أن أكون ألمانية في ميدان التحرير ظهيرة يوم رمضان.