تتعرض مساحة واسعة من خيرة أراضي قرى محافظة القليوبية (المحافظة المتاخمة لمحافظة القاهرة من جهة الشمال) للدمار بفعل التصنيع وتلويثه وفقر الزراعة والمزارعين، ودليل تلك الجريمة ماثل في ترعة بطاح التي تروي تلك الأراضي التي تبلغ 30 ألف فدان. والمسؤولية تتوزع بين مصانع تصرف مخلفاتها السامة في مورد المياه الوحيد، وجهات وزارة البيئة التي تتغاضى عن تطبيق غرامات تعلن عجزها، ومزارعون يعانون تلوث الأراضي ولا يملكون ترف الإندماج في حداثة التصنيع من حولهم إلا بتبوير أراضيهم وبيعها.

تتعرض مساحة واسعة من خيرة أراضي قرى محافظة القليوبية (المحافظة المتاخمة لمحافظة القاهرة من جهة الشمال) للدمار بفعل التصنيع وتلويثه وفقر الزراعة والمزارعين، ودليل تلك الجريمة ماثل في ترعة بطاح التي تروي تلك الأراضي التي تبلغ 30 ألف فدان. والمسؤولية تتوزع بين مصانع تصرف مخلفاتها السامة في مورد المياه الوحيد، وجهات وزارة البيئة التي تتغاضى عن تطبيق غرامات تعلن عجزها، ومزارعون يعانون تلوث الأراضي ولا يملكون ترف الإندماج في حداثة التصنيع من حولهم إلا بتبوير أراضيهم وبيعها.

من الزراعة إلى الصناعة

“ابراهيم أبو حطب” أحد مزارعي منطقة الطريق البطيء الذي يمتد بين قليوب والطريق الدائري، مارا بقري ميت حلفا وأبو سنة وميت نما، يحكي تاريخ زمام تلك المنطقة قائلا: “أراضي تلك المنطقة كانت قبل ثورة يوليو 52 أراضي وسية(ملكية خاصة) تابعة لعائلة إقطاعية هي عائلة”الشواربي”، وكانت الأرض المنتج الرئيسي للخضروات والفاكهة الموجهة نحو العاصمة، مروية بري الحياض.”

ويتابع أبو حطب “بعد تقزيم الملكية في عصر الثورة عبر الإصلاح الزراعي ظهرت ترعة بطاح، وتدهورت الزراعة بفعل الملكيات الصغيرة وزيادة عدد السكان على ثبات المساحة، ومع سبعينات الانفتاح الساداتي، دخلت الاستثمارات الصناعية في المنطقة نتيجة قربها من القاهرة”.

فوضى التصنيع

يبدو هذا التاريخ على قطيعة مع وضعية تلك المنطقة الآن وفقا لرحلة “مراسلون” بين ربوعها، حيث تمتد منطق من المصانع التي تقطع أراضي زراعية شبه خربة، فالزراعة أصبحت علامة على زمن انقضى في ظل دخول تلك المنطقة على خطط الطرق السريعة الجديدة، ومنها الطريق الدائري الذي بفضله نزعت أراضي للمنفعة العامة، فإلى جانب ترعة بطاح الممتلئة بالملوثات القاتلة تبدو خرسانات وإنشاءات الكباري والطرق في صراع على استقطاع المزيد من الأراضي لحساب المدينة المتضخمة.

“مع إفقار الزراعة وزحف عمليات التبوير للأراضي، عمت فوضى التصنيع الهارب من منطقة شبرا الخيمة القريبة والمتقلصة المساحة. الأهالي باعوا أراضيهم لتجار الحديد في السبتية لعل المصانع الجديدة توفر عملا لأبناءهم، وكلما ظهر مصنع جديد ماتت قطعة أرض بالإزاحة، وماتت أخري بفعل الملوثات التي تصرف في الترعة الرئيسية” هكذا يكمل “إبراهيم أبو حطب” سيرة التمدين العشوائي.

 اتهامات من الأهالي

عند مقهى مرتجل على الطريق، تحدث “عصام محمد” صاحب المقهى مشيرا إلى مجري ترعة بطاح المارة أماه قائلا: “هناك نحو 20 مصنعا يلقون بمخلفاتهم في هذه الترعة، مصنع محمد حجاب للطباعة والتجهيز وهو يصرف الصبغة المتبقية من صباغة الأقمشة، بما تحتويه من بوتاس زبوتاسيوم، ومنه أيضا تخرج ماسورة غاز تندفع في قلب الترعة حاملة الأبخرة السامة، ومصنع غبور الشهير لقطع غيار هيونداي وهو يصرف المازوت والشحم ومخلفات زيوت السيارات، ومصنع يوسف قناوي للسوست ويخرج منه المازوت، ومصنع محمد قنديل “لسحب الخوصة” ويخرج منه زيت متسخ يستعمل في إشعال النار، بينما على الجانب الآخر من الترعة يروي الفلاحون 30 ألف فدان من الأراضي من تلك المخلفات”.

يقاطع حديثنا العامل “وليد سعد” أحد العاملين في أحد هذه المصانع وابن من الجيل الثالث لفلاحي المنطقة، فيقول: “تأتي سيارات صرف المخلفات السائلة، تلقي بالمخلفات في الترعة ثم يقوم السائق بغسل السيارة في الترعة، وقد كانت تلك الملوثات سببا في تبوير أراضي عديد من المزارعين نتيجة أنخفاض الإنتاجية، كما ترتفع هنا نسبة الإصابة بأمراض الفشل الكلوي، فالفلاحون يمارسون الزراعة بالطرق البدائية ويغوصون في هذه المياه أثناء عمليات الري الصعبة، ويعتمدون على المياه الجوفية التي تلوثت هي الأخري في الشرب”.

أثناء جولة”مراسلون” بالمنطقة قابلنا أحد سكان المنازل المتناثرة على شاطئ تلك الترعة، حيث تحدث “مهدي يوسف” قائلا:” مسؤولي الري، الذي يفترض بهم مراعاة هذه الترعة يمرون كل فترة لرصد كمية الملوثات بالمجري، لكن لا تظهر نتائج لهذا الرصد، فلم نلاحظ أي تغير في نمط علاقة أصحاب المصانع، المخالفات ظاهرة كعين الشمس منذ سنوات، والحل هو ردم هذه الترعة”.

مديرية الزراعة تحرر محاضر لا تُستكمل

انتقلنا إلى مديرية الزراعة بقليوب لمواجهة مسؤولي الري بادعاءات الأهالي، فقال المهندس”خالد توفيق”: “لقد حررنا محاضر عديدة للمصانع المخالفة، نقوم بإحالتها للمحكمة، ولا نعلم كيف تستكمل الإجراءات، لكن وفقا للقانون ورصدنا المتتالي كان لابد أن تغلق العديد من المصانع المخالفة وهو ما لم يحدث، نحن نقوم بتنظيف الترعة مرتين في العام، ونحلل عينات صرف المصانع كل ثلاثة أشهر، هناك مصانع تلتزم بالتصاريح الخاصة بنا، وأخري لا تلتزم، وهذه حدود مسؤوليتنا عن الأمر”.

داخل إحدى أراضي المنطقة ألتقينا “محمد أبو طالب”، مزارع ستيني فتحدث قائلا:”تصلنا المياه ملونة، مرة زرقاء ومرات خضراء وفي كل الأحيان بنية أو حمراء، أصحاب المصانع لديهم علاقات بموظفي الري والبيئة، والدليل ما تراه من جريمة بعينك الآن، الأرض أصبحت مسرطنة، تخرج البطاطس مهروسة وجذور البصل متعفنة، أي ذرع هنا يذبل فورا، نحاول ترميم الأرض بحفر طلمبات للمياه الجوفية للري من وقت لآخر، لكن الأرض لا يتجدد طميها، لا أعرف إلى متى سأستطيع التحمل، سأبيع الأرض مباني، يكفي مرضي ومرض أبنائي، لن أقاوم على حساب عائلتي”.

لم نستطع الوصول إلى متحدث من أحد المصانع ليدحض تهم الأهالي. وتركنا الترعة وناسها، فلا شك أن للتحديث أثمان مضاعفة، لكن هل لابد أن تحل الكارثة بحياة عشرات الآلاف من المزارعين في بلد يجوع وتتناقص مساحته الزراعية، من أجل فائدة عشرات المصانع التي تجهز على حياة الناس من حولها؟