هنا عند مدخل قرية ميت سويد مركز دكرنس في محافظة الدقهلية لا تملك أيّ امرأة وجهاً صبوحا كاللذي لفاتن حمامة بطلة فيلم “الحرام” وهي تعمل في الحقل بدلا من زوجها المريض (عبد الله غيث).

نساء التراحيل اللاتي يقرفصن هنا في الصندوق الخلفي لعربة النصف النقل، لهنّ وجوه حرقتها الشمس وغزتها التجاعيد، وأيادٍ متشققة وملابس تذكّر بالستينيات.

زينب عبد الله واحدة منهنّ، قادمة لتوها من قريتها لتعمل في حدود الملكيات الكبيرة المتبقية في ذمامات قرية ميت فارس وعزبة كرم والونجيل ومرشاه، حيث لا زال هناك 800 فدان مزروعة قمحاً تحتاج إلي عاملات باليومية لحصدها.

هنا عند مدخل قرية ميت سويد مركز دكرنس في محافظة الدقهلية لا تملك أيّ امرأة وجهاً صبوحا كاللذي لفاتن حمامة بطلة فيلم “الحرام” وهي تعمل في الحقل بدلا من زوجها المريض (عبد الله غيث).

نساء التراحيل اللاتي يقرفصن هنا في الصندوق الخلفي لعربة النصف النقل، لهنّ وجوه حرقتها الشمس وغزتها التجاعيد، وأيادٍ متشققة وملابس تذكّر بالستينيات.

زينب عبد الله واحدة منهنّ، قادمة لتوها من قريتها لتعمل في حدود الملكيات الكبيرة المتبقية في ذمامات قرية ميت فارس وعزبة كرم والونجيل ومرشاه، حيث لا زال هناك 800 فدان مزروعة قمحاً تحتاج إلي عاملات باليومية لحصدها.

زينب في منتصف الأربعين، تعمل لنحو عشرة ساعات يوميا في واحدة من أشقّ المهن مقابل 20 جنيها، تقول إنها تصرف 2 جنيه منها لمقاولة الأنفار، كسمسرة مقابل اختيارها، كما تعطي السائق جنيه واحد أجرة نقلها، أي أن ما يتبقى لها هو 17 جنيه (أقل من 3 دولار أمريكي).

تروي زينب أن سائقها يحملها ورفيقاتها إلي الغيطان في السادسة صباحا، يعود بهن إلى بيوتهن في العاشرة صباحا، ثم ينقلهن من جديد إلى الوردية الثانية بين الواحدة والسادسة بعد ظهر نفس اليوم.

تتنقل السيارة النقل حاملة نحو 50 امرأة في طرق غير ممهدة لنحو 2 كيلو متر، وعند مدخل مدينة دكرنس تتوقف لتنزل منها النساء عند فدان من أراضي المحامي أحمد محمود المحامي المقيم في القاهرة.

تنظّم مقاولة الأنفار التي جلست طوال الرحلة إلي جوار السائق نحو 25 منهن في الحقل الذي اصفرت عيدان القمح فيه وكوّمت على هيئة تلال تنتظر الأيدي المتشققة لنسوة تلحّفن بأغطية تقيهنّ حمرة شمس الصيف القائظة.

“قضيت حياتي بين حقول ومزارع القمح والأرز والفواكه”. تقول الحاجة عزيزة، إحدى عاملات التراحيل. هذه المرأة في سن 75 سنة، وتعمل في المهنة منذ كانت طفلة باستثناء فواصل مواسم الزراعات، إذ تبيع فيها البصل الناشف في فرشة بسوق القرية.

وتضيف الحاجة عزيزة “بعد أن مات زوجي صار عليّ أنا وولدي عبد الرحمن رعاية أسرته وباقي أسرتي من أبناء وأحفاد”.  

وتشرح تفاصيل يومها الذي ينقسم إلي “سرحتين” أو ورديتين، الأولى تستمر حتى العاشرة صباحا، يعدن بعدها إلي منازلهن لقضاء حوائج أسرهن، ثم الثانية من الواحدة حتى السادسة، يقمن خلالهما بجمع الغلة بطريقة الشقرف، وهي طريقة يدوية تعتمد على أيدي النسوة المهرة الرخيصات اللاتي يجمعن غلة فدان كامل في يوم واحد.

وتتقاضى السيدة العجوز نفس أجر زينب، وتقول إن مجموع أجور النسوة الخمس وعشرون أقل من ثمن تأجير ماكينة متخصصة.

السمة الغالبة بين وجوه العاملات هو تقدمهن في السن، إذ يصعب العثور على واحدة يقل عمرها عن 45 عاما. وتضاعف عوامل الشقاء والشمس الحارقة من أعمارهن.

“لا حديث خلال العمل” كما نبّهت المقاولة التي تشرف عليهن من بعيد قرب إحدى الشجرات الظليلة وتتدخل فقط لتنظيم أو حل مشكلة طارئة.

تحت نفس الشجرة، وفي استراحة قصيرة فككن فيها صرر قماشية احتوت بعض الخبز والخضروات، استكملت أم هاشم البالغة من العمر 55 عاما تلخيص حكايات معظمهن على صورة نفسها.

أم هاشم مطلقة منذ سنوات ولديها أربعة أبناء. خلال زواجها كانت أيضا تجمع الغلة من الحقول وتعمل خارج مواسم الجمع كخادمة في بيوت المركز.

“كان زوجي يأخذ اليومية ليشتري مخدر البانجو، وبطلاقي ضمنت أن لا تذهب يوميتي إلا لأبنائي”، تقول بحزن ممزوج بالرضى.   

طريقة جمع الغلة بالشقرف متعبة بالنسبة لها، تليها مرحلة درس الغلة، والتي يحتاج كل فدان فيها لخمس عاملات على الأكثر.

تقطع السيدة محمد، 50 عاما، استرسال أم هاشم متحدثة عن الأعمال الأخرى التي تتطلب عاملات تراحيل. أخطرها على الإطلاق هو رش المبيدات، إذ لا يقوم صاحب الأرض بتسليمهن كمامات.

وتوضح، “حين تسقط إحدانا نتيجة تسمم، أو عندما تتعرض لإصابة عمل، يخرجها المالك من أرضه حتى يخلي مسؤوليته” أما لماذا يرضخن، فلأن “الجوع كافر” على حد تعبيرها.

لا يقتصر عمل عاملات التراحيل فقط على الزراعة في أرياف الدلتا بل تعمل –وفقا للناشط العمالي خالد عبد الرحمن- شرائح منهن في أعمال البناء في القرى.

وبحسب هذا الناشط، تقوم النساء بسد الفجوة في العمالة الزراعية بالأساس نتيجة انخفاض اقتصاديات الزراعة عموما، وانصراف الرجال عن العمل في هذا القطاع المنخفض الأجر، على الرغم من وصول معدلات البطالة علي المستوي القومي إلى ما يزيد عن 20 في المئة.

ويرصد محمود منسي الباحث في “مركز الأرض” مشكلة عمالة التراحيل الريفية بأرقام أكثر تحديدا. فهناك وفقا لدراسات مركزه نحو 3 مليون عامل تراحيل ريفي، منهم نصف مليون في محافظة الدقهلية وحدها، معظمهن من العاملات.

هذه الملايين تعمل في ظروف قاسية دون تأمين أو ظروف عمل انسانية خارج الاقتصاد الرسمي، ولا ينطبق عليهن ولا على العاملات في خدمة البيوت قانون العمل لسنة 2003 والحقوق المتضمنة فيه. 

وتلجأ النساء تحديدا للعمل في التراحيل إما نتيجة طلاقهن أو ترملهن أو سجن الزوج، متعرضات إلى “أسوأ استغلال يتم بعيدا عن عيون النقابات” على حد تعبير مدير المركز.

ويضيف محمود منسي إن النساء منهن في سن 30 إلى 35 عاما يصبن بأمراض الانزلاق الغضروفي، كما تنتشر بينهن الأمراض الصدرية، تحديدا السل، خاصة في مواسم جمع الأرز، فيما تسبب عمليات رش المبيدات إصابات متنوعة بين الجلدية والتنفسية.

وتلجأ النسوة العاملات في الحقول إلى تدارك إصاباتهن وعلاج أمراضهن بالوصفات الطبية الشعبية كما اكدت معظم اللواتي قابلهنّ موقع “مراسلون”، إذ إنهن لا يملكن أصلا ثمن الكشف في الوحدات الصحية.

وبحسب تقديرات المركز، يبلغ مجموع أيام عملهم السنوية نحو 104 يوما، ونتيجة لفقرهن غالبا ما يستبدلن أجرهن ببعضا من المحصول الذي يقمن بحصده، في عودة لنظام المقايضة البدائي القديم.

تنزل شمس المغرب علي أرض المحامي المقيم بالقاهرة، فيما تجمع الحاجة زينب وأم هاشم والسيدة باقي النساء ويفترشن جانب الحقل في انتظار عودة السيارة، يغنين بعض أبيات غناء التراحيل الشهيرة.

أولئك النساء لا يعرفن ربما أن هنري بركات المتوفى نهاية الثمانينيات قدم قبل أربعين عاما حكايتهن ولا يدركن المصير الفيلمي البائس لسيدة الشاشة العربية، فما يعشنه في 2012 يرينه ببساطة قدرا لا أكثر.