يجلس ابراهيم الجراري (50 عاماً) في مكتبه الواقع مقابل مسجد الملك إدريس السنوسي وسط مدينة طبرق شرق ليبيا، يتابع معاملات تجار المدينة ويحاول تنظيم إجراءات العمل بالقطاع الخاص فيها. ورغم كل التوتر وعدم الاستقرار الذي تشهده البلاد إلا أنه يبقى مفعماً بالأمل بأن مستقبل التجارة في ليبيا سيكون أفضل بعد الثورة.

الجراري الذي يشغل منصب الرئيس الحالي لغرفة التجارة والصناعة والزراعة بطبرق وهو تاجر بدوره منذ سنين طويلة، يقول أن امتهان التجارة إبان عهد النظام السابق في ليبيا كان مخاطرةً حقيقية، حيث يضع التاجر رأس ماله “على كف عفريت” بحسب تعبيره، تاركاً كل شيء للحظ وللصدفة.

يجلس ابراهيم الجراري (50 عاماً) في مكتبه الواقع مقابل مسجد الملك إدريس السنوسي وسط مدينة طبرق شرق ليبيا، يتابع معاملات تجار المدينة ويحاول تنظيم إجراءات العمل بالقطاع الخاص فيها. ورغم كل التوتر وعدم الاستقرار الذي تشهده البلاد إلا أنه يبقى مفعماً بالأمل بأن مستقبل التجارة في ليبيا سيكون أفضل بعد الثورة.

الجراري الذي يشغل منصب الرئيس الحالي لغرفة التجارة والصناعة والزراعة بطبرق وهو تاجر بدوره منذ سنين طويلة، يقول أن امتهان التجارة إبان عهد النظام السابق في ليبيا كان مخاطرةً حقيقية، حيث يضع التاجر رأس ماله “على كف عفريت” بحسب تعبيره، تاركاً كل شيء للحظ وللصدفة.

السبب في ذلك كما يوضح، “هو غياب أبسط الضمانات القانونية للتاجر، وغياب الاستقرار الاقتصادي الذي يتحكم فيه دائماً مزاج الأسرة الحاكمة”.

فالتاجر كان يحصل على العملة الصعبة من السوق السوداء بأضعاف سعر الصرف الرسمي، ناهيك عن أسعار الجمارك المرتفعة جداً والتي تبلغ أحياناً 400% على بعض المنتجات كالسيارات مثلاً.

أما مسألة تقدير الأسعار ووضع قيم الرسوم الجمركية فتُسند بدورها إلى لجان غير مُختصة، لاتراعي الاتفاقيات الدولية ولا الأسعار في السوق العالمية، ولا كذلك الفوارق في تكاليف الشحن.

معاناة جالب البضاعة لم تكن تنتهي بمجرد خروجه من الحظيرة الجمركية بعد فحص وتفتيش واختبار المواصفات. فمن الوارد جداً أن تتعرض البضائع للمداهمة والتفتيش وربما طلب المزيد من الإجراءات من قبل ما كان يُعرف بجهاز مكافحة الجمارك، والذي كان من ضمن صلاحياته مداهمة سيارات الشحن والمخازن، وأحياناً مصادرة مافيها حتى ولو كان مستوفياً شروط التخليص الجمركي، في تضارب عجيب في الإجراءات والقرارات بين أجهزة الدولة.

 

المفسدون في الأرض

 

تتضح جوانب معاناة ومجازفة الجراري وزملائه عند التحدث عن الطرق المتبعة لتحويل الأموال إلى الخارج، والتي كانت تدفع بالتجار إلى السفر براً وحمل كميات كبيرة من الأموال، بطرق أشبه بالتهريب، راح ضحيتها عديد من التجار الذين سُلبوا أموالهم، وأحياناً أرواحهم على الطريق.

يقول الجراري أن الأمر كان أشبه بالطرفة حين أمر العقيد الراحل معمر القذافي بفتح سجن أطلق عليه اسم “سجن المفسدون في الأرض”، أُنشئ في مدينة تاجوراء شرقي طرابلس، وأودع فيه عددٌ من التجار ورجال الأعمال الذين وُجهت إليهم تهم بالفساد، وبالطبع لم يكن بينهم أيٌّ من سارقي المال العام أو من رموز الدولة، الذين كوَّنوا ثروات هائلة عن طريق سرقة أموال الشعب.

كان الجراري واحداً من هؤلاء الذين دخلوا السجن عام 1997م، وقضى فيه ستة أشهر على ذمة التحقيق تحت طائلة السؤال الذي لا جواب له: من أين لك هذا؟! يحكي الجراري أنه كان يُحقَّق مع الموقوفين بالسجن لبضعة دقائق، ثم يُتركون لأيام وربما أسابيع، والسؤال يُكرر نفسه .. من أين لك هذا؟!

كما يُسألون عن مصدر حصولهم على العملة الصعبة، وكيف حولوها إلى الخارج، ويطلب المحققون منهم كشوفات تحويل أموال من المصارف، رغم أن هذا الإجراء كان حكراً على شركات القطاع العام والمتنفذين في الدولة، إضافة إلى رجالات النظام مُستغلين أسماء الشركات العامة ورُخص ماكان يُعرف بالشركات الأمنية لتمرير مصالحهم الشخصية.

اتحاد كرة القدم

ويروي الجراري إنه في منتصف التسعينيات صدر قرار يمنع استيراد الملابس النسائية، فاستخرج أحد المقربين من النظام رخصة باسم الاتحاد العام الليبي لكرة القدم، وقام باستيراد ملابس نسائية بمختلف الأنواع. ولأن تلك الملابس دخلت البلاد على اسم الاتحاد، فإنها لم تخضع لأي تفتيش. “وبهذه الطريقة كان يتم التحايل على النصوص القانونية التي لم تعرف الاستقرار طيلة تلك السنين”، يعلّق.

تخبطٌ في القوانين وتضاربٌ في القرارت، وغياب تام للاستقرار في المنظومة القانونية والإدارية والتجارية للبلاد، وعلاقاتٌ دولية تُبنى وتُهدم بين عشية وضُحاها وفقاً للمزاج السياسي للعقيد .

كل هذا وغيره كان كفيلاً بعرقلة الحركة التجارية في ليبيا على مدى أربعة عقود، عانى خلالها التجار ورجال الأعمال وكل مكونات القطاع الخاص الأمرّين، فيما كان القذافي يحاول فرض تطبيق نظريته عن الاشتراكية، والتي كان يصفها بالحل الأمثل لمشاكل العالم، لا مشاكل ليبيا فحسب.

رغم ذلك، شهدت ليبيا نوعاً من الانفتاح في العقد الأخير رافق بعض المشاريع الإصلاحية التي حاولت أسرة القذافي طرحها، وحدثت معه بعض التطورات على صعيد القطاع المصرفي، كتقديم بعض المصارف لخدمات الفيزا والماسترد كارد، وتفعيل خدمة المقاصة الإلكترونية والتحويل الدولي، وفتح الاعتمادات التجارية بطرق أكثر مرونة من السابق.

لا بد أن يحدث

الأشهر الأولى بعد قيام الثورة شهدت وفق التاجر، تأزما في أوضاع التجار، حيث تم تعطيل معظم المطارات والموانئ والمنافذ البرية للبلاد، فضلاً عما تسببت به الحرب التي دخلت بها البلاد من تبعات اقتصادية، جاءت نتيجة عمليات تجميد الأرصدة، والقيود المعقدة التي فُرضت على السحوبات المصرفية، وارتفاع سعر صرف العملة والنقص الحاد في العملات الأجنبية.

إلا أن هذا الوضع لم يدم طويلاً، إذ تم التغلب على مشكلة السيولة بعد رفع القيود على السحوبات المصرفية، كما عادت حركة المنافذ البرية والبحرية والجوية للعمل، وبدأ الوضع يشهد تحسناً مستمراً، والحياة تدب في أوصال السوق الليبية من جديد.

اليوم، هناك لائحة طويلة من القوانين تحتاج لإعادة نظر من السلطات الجديدة في البلاد بحسب التاجر الليبي، الذي أضاف أن غياب الأمن مشكلة عويصة أخرى، يترتب عليها انتشار السلع المهربة ودخول بعض السلع المحظورة السوق الليبية. ويتمنى الجراري أن تبسط الدولة سيطرتها الأمنية على الأرض لكي يسترد التاجر الليبي ثقة الشركات العالمية.

ويبقى التحدي بحسب الجراري قائما، أمام الاقتصاد الليبي المترنّح. فالمطلوب “تفعيل خدمات أفضل وأكثر شمولاً وفاعلية، في ظل ضعف البنية التحتية، والمنظومة البريدية المهترئة، وغياب المسميات الواضحة للشوارع وترقيم المباني”.

أمر قد يستغرق عدة سنوات بحسب هذا التاجر، إلا أنه لا بد أن يحدث.