ماذا فعلت ثورة ٢٥ يناير بمن تبقى من الجاليات الأجنبية في الإسكندرية؟تتباهى هذه المدينة الساحلية بتراث كوزمبوليتاني عريق، وباحتضانهما جاليات عديدة في كنفها منها الجالية اليونانية واليوغسلافية والايطالية وغيرها.

لكن الجاليات التي عايشت وقائع الثورة المصرية وسقوط نظام حسني مبارك تفكر اليوم في الرحيل خوفا من الاضطراب السياسي ومن الإسلاميين.

مخاوف سبق واختبرتها الجاليات قبل نحو ستين عاما، عندما دفعت ثورة ٢٣ تموز (يوليو) ١٩٥٢ وسياسات التأميم التي أطلقها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، آلاف المقيمين الأجانب إلى هجرة المدينة والعودة إلى أوطانهم الأصلية.

هكذا سقطت فرنسا من حساباتي

“لها رائحة خاصة تتناثر في شوارعها وأزقتها ومقاهيها. إنها الإسكندرية أو بيتيه باريس كما نطلق عليها نحن الفرنسيين”، يقول ليفي كاتلوك عن عشقه للاسكندرية.

كاتلوك جاء إلى هذه مع والده عام 1939، وكان عمره آنذاك 10 سنوات، بينما يبلغ اليوم 80 عاما. انتقلت عائلة هذا المواطن المصري إلى الاسكندرية هربا من القلق والرعب الذي أصاب التجار الفرنسيين من الدمار المحقق خلال الحرب العالمية. قام والده بشراء محل قماش في منطقة “زنقة الستات”(شرقي الاسكندرية) وبدء في تجارته، وشيئا فشيئا سقطت فرنسا من حسابات عائلة كاتلوك، وأبدلوها بحبهم للبحر والكورنيش، كما يقول.

أحداث الثورة جاءت مفاجئة للعجوز الفرنسي، فيقول كاتلوك الذي لم يعد يخرج كثيرا من منزله “فوجئت بخطاب تنحي الرئيس مبارك، فلم أتوقع أبدا أن يسقط أكبر ديكتاتور في العالم بيد الشعب الذي تعمد قهره منذ 30 عاما”.

لكن كاتلوك شعر أيضا بالخوف كما يقول، خوف مصدره احتمال وصول الجماعات الإسلامية للحكم في مصر، مما قد يعني انتهاج سياسات متشددة، وفكر في الرحيل إلى فرنسا لكنه لم يقدر على اتخاذ ذلك القرار لحبه للاسكندرية.

قرار كاتلوك البقاء يُبقي على شعلة الجالية الفرنسية الخافتة، فقد تقلصت وجودهم ولم يبقى سوى عدد محدود من الأفراد في المدينة.

الخوف من الاسلاميين

الجالية اليونانية هي من أكبر الجاليات في الاسكندرية، ويبلغ عددها نحو 3 الاف ما بين يونانيين مصريين ويونانيين وافدين، منهم المعلمون والحرفيون والمختصون في الاثار، بحسب المهندس ميشيل غبريال، صاحب دور سينما بالإسكندرية.

ويقول غبريال الذي ورث عن والده هذه المهنة إن الحياة في مدينة الثغر كانت مختلفة كثيرا عن الوضع الحالي. “كانت الإسكندرية كالحلم، كنا نحتفل بالمسارح ودور العرض”.

ومضى المصري- اليوناني يقول إن كثير من الجالية اليونانية “كانوا يشعرون بالأمان في عهد مبارك، ولكن بعد اندلاع الثورة المصرية شعروا بالخوف من السلفيين والإخوان الذين يصعدون إلى مناصب الدولة ويحاولون تطبيق “شرع الله”، مما جعل بعضهم يقرر العودة إلى اليونان”.

ويؤكد غبريال أن نحو عشرة من أصدقائه اليونانيين من أصحاب المحلات الشهيرة بالاسكندرية صفوا أعمالهم عقب ثورة يناير، بسبب ما شاهدوه من أعمال البلطجة. ويضيف قائلا “بل أن منهم من ترك ممتلكاته بسبب الخوف والرعب من الأحداث الجارية وعاد إلى اليونان”.

دعوات لجذب الجاليات الأجنبية

على الجانب الآخر هناك من رحل عن الإسكندرية منذ زمن طويل ويفكر في العودة لرؤية المدينة.

“أصحاب كثر لديهم الرغبة الجامحة في العودة. بعض رحل عن الاسكندرية منذ ستين عاما وأكثر، لكن حالة الاضطراب السياسي التي تعيش فيها مصر حاليا تجعلهم يترددون”، هكذا يصف كلين بوشتاك، 79 عاما، حال أصدقائه اليونايين الذين يتمنون العودة إلى الثغر.

ويضيف بوشتاك أنه علم من أصدقائه في اليونان أنهم تلقوا دعوات من وزارة السياحة المصرية لجذب الجاليات القديمة إلى مدينة الإسكندرية بغرض تنشيط السياحة والتجارة، مشيرا إلى أن هيئة تنشيط السياحة تقوم دائما بدعوة هؤلاء لزيارة معالم المدينة.

لكن بوشتاك يقول إن أصدقاءه لا يزالون مترددين في قبول تلك الدعوات لخوفهم مما يحدث في مصر من معارك سياسية و”تفشي ظاهرة الاسلاميين في الشارع”.

الدكتور محمد توفيق، المسؤول عن الدعوات في وزارة السياحة أكد من جهته أنه لا توجد دعوات رسمية للجاليات الاجنبية للعودة والإقامة في مصر بعد الثورة، “لكنها دعوات سياحية لتنشيط قطاع السياحة فقط وإعادة بناء الاقتصاد بعد الثورة المصرية”.

الجالية اليهودية لم يتبق منها سوى اثنان

الجالية اليهودية هي واحدة من أكبر الجاليات وأهمها بالإسكندرية، وكان لبعض أفرادها من التجار محالات كبيرة مثل هانو وشيكوريل وعدس، لكن معظم أبناء هذه الجالية غادر المدينة أو توفى، ولم يبق سوى بضعة أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، كما يقول يوسف جاعون، رئيس الطائفة اليهودية الحالي بالإسكندرية.

ويضيف جاعون أن عدد اليهود في الاسكندرية حتى خمسة أعوام كان 24 يهودياً، ثم تقلص ليصبح اثنين فقط، هو نفسه وشخص آخر يدعى وفيكتور ماير بلا سيانو. وبذلك أصبحت الشعائر الدينية التي يحضر حاخام من إسرائيل ليقيمها تقتصر على الاثنين فقط.

جاعون لم يعلق على أحداث الثورة وتبعاتها، ولم يتحدث عن تغيرات أحدثتها الثورة في حياته. فهو يقضي أيامه في بيته، ومن حين لآخر يزور صديقه الوحيد ويتذكرا تاريخ جالية لم يبق منهم سواهما.