يفترش علي سلامة الرصيف المحاذي للمسجد الكبير في ميدان سيدي عوض في مدينة قليوب شمال القاهرة. إلى جانبه تتراصف أكتاف العشرات من رفاقه عمال التكسير والهدم المعروفين باسم “الفواعلية”.
سلامة المنتصف أربعيني الذي تطفو تجاعيد مبكّرة فوق وجهه، كان يزيح جانبا عدّته المكونة من شاكوش (مطرقة) وأزاميل متعددة الأنواع وعتلة، ويفسح المجال لزملاء جدد للجلوس إلى جواره، ينتظرون في قيظ الظهيرة مقاول الأنفار الذي كلما تقدم النهار تضاءلت فرص ظهوره على عربته النصف نقل.
“الواحدة ظهرا تعني ندرة المقاولين”، يقول سلامة. فحتى لو ظهر المقاول باحثا عن عمّال، سيكون المعروض منهم أكثر من المطلوب. ولأنه يدرك آمال كل واحد من هؤلاء في العودة إلى منزله بيومية تقيه ذلّ الحاجة، سينصُب مزادا تنازليا لمن يقبل منهم العمل بأقل مبلغ ممكن.
بالنسبة لرجل مثل سلامة، خرج اليوم بطموحات إطعام أسرته المكونة من ستة أشخاص بينهم بنتان لابد من تجهيزهما للزواج، لا مجال للاختيار، إذ يصبح الصراع بين العودة إلى المنزل مفلسا او قبول الثمن البخس الذي يعرضه المقاول.
يقول سلامة لموقع “مراسلون” أن العمل في المعمار كـ “أسطى” بنّاء أو ممحر حوائط أو بلّاط أمرٌ فات أوانه ولا يمكن احترافه في سنّه المتقدم. هكذا لم يبق أمامه سوى العمل الخام الذي يتطلب قوة عضلية فقط دون فنيات، كالترحيل والنقل والتكسير وسواها من الأشغال المنهكة. ويردف بصوت يخنقه العجز، “لو كنت بدأت حياتي من أوّلها فواعليا لتطورت في اتجاه صنعة محددة، لكنني كنت عامل نسيج ولم أحسب لهذا اليوم حسابا”.
صراع مع العضلات الضامرة
عدد المياومين الذين يقاسون ظروفا بائسة يناهز الـ 16 مليون عامل في عموم البلاد، طبقا لتقديرات “نقابة عمال اليومية المستقلة”، وهي تنظيم عمّالي أعلن عنه في الأشهر الأولى للثورة بعد أن شهدت الحركات النقابية المستقلة قفزة نوعية.
أحمد الدباح، رئيس النقابة الجديدة، يعزو ضخامة العدد إلى تحولات عنيفة أصابت سوق العمل المصري منذ أن انسحبت الدولة تدريجيا لصالح حيتان المال وبدأت بتنفيذ برنامج الخصخصة منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهو برنامج أخرج إلى البطالة سلامة ومعه مئات الآلاف من أمثاله.
في حالة سلامة تحديدا، باعت الحكومة المعمل الذي كان موظفا فيه لمدة سبع سنوات في مدينة قليوب، والذي يتبع شركة “إسكو” للغزل والنسيج، فتخلصت من العمالة المؤقتة دون منحها تعويضات أو حتى مكافأة تسريح. بعدها تشرد الرجل بين عمل وآخر، وانتهى به المطاف على رصيف المياومين.
أوضاع تلك العمالة وواقعها لا ينفصل عن سياق التحولات بعد ثورة 25 يناير، سواء على مستوى معاناتها المضاعفة أو تباشير الأمل بهدم جدار الصمت عنها.
فمنذ أن اندلعت الثورة لا يتقاضى سلامة أكثر من 50 جنيها باليوم (أقل من سبعة دولار أمريكي)، ويقول إن وضعه المالي قد انهار تقريبا، وأن أسبوعا كاملا يمر عليه دون أن يطلبه مقاول الأنفار.
يمتد خيط الحديث في الوقت الذي يتأكد فيه سلامة من ضياع فرصة اليوم. ينتقل من الرصيف ليكسر حالة تدخينه اللانهائية ببعض من الشاي الساخن علي مقهى مجاور مستكملا حديثه، “أحيانا يمر اليوم من السابعة صباحا حتى الواحدة والنصف دون أن يظهر من يطلب فواعلية. تكون قد صرفت بالفعل نحو 20 جنيها بين التدخين والإفطار والمواصلات”.
يضيف أنه يرى الموت في عمله كل يوم، وأن صحته وقواه العضلية إن نفعته اليوم فإنها لن تنفعه غدا. ويسمي اثنين من رفاقه مقعدين على الكرسي المتحرك إثر سقوطهما من على سقالة. طبعا “لا أمان صناعي أو مهني حال التعرض لإصابة”.
سوق الرجال
يستأذن سلامة في الذهاب للمسجد القريب لأداء صلاة الظهر، في اللحظة التي يدخل بها المعلّم حامد محمد، أحد أشهر مقاولي الأنفار في المنطقة. ينتقل مراسل “مراسلون” إلى منضدته، وبعد تعارف سريع يحكي عن مهنته.
“يتصل بي مهندسون صغار يحتاجون لعمال، فأنزل إلى سوق الرجال (الميدان) حيث يتجمع الفواعلية، وانتقي بعضهم”. أما الربح الذي يحققه، “فيخرج من فارق السعر الذي أتفق عليه مع كل من المهندس والعامل”.
ينقطع حديث المعلّم محمد كثيرا بتليفونات تأتي من عمال ومهندسين، أو ترحيبات متتالية ببعض الداخلين توّا للمقهى، فهو مشهور كما يبدو بين الموجودين. وحين سؤاله عن الاستغلال الذي يتهمه به العمال، ينفي بشدة قائلا: “مهنتي قائمة على التوافق مع الطرفين. انا لا أخدع أحدا وأعامل عمّالي باحترام، وأعمل بجد كي يكبر دولاب عملي وأصبح مقاول بناء كبير”.
ويوضح المعلم حامد أن الفواعلية الذين يسـتأجر عضلاتهم معظمهم قادم من الأرياف القريبة من الصعيد والدلتا (المنوفية والمنيا وبني سويف) وكذلك بعض من يسكنون المناطق الشعبية.
يمولون الدولة بالملايين
لئن اتسعت الخارطة البشرية لجيوش المياومين، إلا أن معظمهم محروم من التأمينات الاجتماعية أو الصحية. حاول سلامة أن يسجل نفسه في الـتأمينات كعامل حر لكنه فشل. “هذا يحتاج إلى واسطة”، قال لموقع “مراسلون”.
وعلى هامش إحدى التظاهرات العمالية أمام مجلس الشعب، أشار رئيس النقابة أحمد الدباح لموقع “مراسلون” إلى أن النسبة الكبرى من هؤلاء لا تنتمي لتنظيمات نقابية، أما عدد المنتسبين لنقابته الوليدة فيبلغ 11400 عامل فقط، أقل من نصفهم في القاهرة.
ويذكر الدباح فيما يخص عمال البناء تحديدا – وهم الشريحة الأوسع- وضعا يصفه “بالمدهش”. فالدولة تحصل من كل مقاول بناء عند ترخيص العقار على 3500 جنيه (حوالي 575 دولار أمريكي) كتأمين على العمال، فيما يقتطع المقاول من أجر العامل نفسه 5 بالمئة ضرائب من المنبع.
“قدمنا للدولة تأمينات عن الفواعلية بين عامي 2000 و2011 بلغت ملايين الدولارات فأين تذهب هذه الأموال؟”، يتساءل رئيس النقابة.
ويؤكد النقابي أن الدولة وأجهزتها الإدارية تنتفع بالمقدرات “المنهوبة”، وأن استرداد العمال لحقوقهم مرتبط بتغيير قوانين المزايدات والمناقصات لسنة 1989، لينص على أن كل مقاول بناء يدخل أي مناقصة ويفوز بها مجبر علي تسجيل عماله في نقابة، فالقانون الحالي كما يرى الدباح “يشرعن العبودية بشكل حقيقي”.
العسكر والبرلمان لا يعترفون بالنقابة
يلفت الدباح إلى أن ما تقدمه “نقابة عمال اليومية” من دعم للعمال ضئيل، نظرا لصغر حجمها وحداثة نشأتها وحصار المجلس العسكري و”البرلمان الإسلامي” -هكذا يصفه – للنقابات العمالية الجديدة.
عدم الاعتراف بالنقابة المستقلة مفوّضا عن هؤلاء العمال أضعف من دورها وقصره في الوقت الحالي على الاتفاق مع