“السلام عليكم.. أنتم السابقون و نحن اللاحقون “.. عبارة نقولها دائمًا عند مرورنا بجوار إحدى المقابر، نقصد بها بالطبع الأموات؛ هؤلاء الذين صعدت أرواحهم إلى بارئها.  لكننا نسينا أو لا نعلم من الأساس أن حول تلك القبور تُعمر بيوت ولكنها لأحياء مثلنا، لكن جيرانهم أموات.

 

يستقبلونك من الوهلة الأولى حين تطأ قدماك منطقة القبور بالسيدة نفيسة ، تظنهم يرحبون بك ، ولكن تجدهم يستعطفونك و يتذللون مقابل ربع جنيه – علي حد طلبهم – يبذلون كل الجهد من أجل اقناعك باعطائهم إياه، وعندما تخضع لهم يتركونك من أجل زائر آخر، أو بالتحديد “ربع جنيه آخر”، هذا حال الأبناء، أما الآباء فمنهم من يعمل “تربي” أي حارس مقبرة بالمنطقة أو “مقرئ” يتجول بين الأحواش ليسترزق بما حفظه من آيات القرآن الكريم، ثمة آخرون ممن يعملون في حرف مختلفة خارج نطاق هذه القبور، ليلتقوا وعالم الاحياء كل يوم ثم يعودون لعالمهم بعد إنتهاء وقت عملهم.

 

قد تجد بجوار منزل سكنك محل بقالة او شجرة او مستشفي ولكن تخيل انك تستيقظ كل يوم لتفتح عينك علي قبر مزين ببعض الآيات، أو أبيات شعر في رثاء الساكن باسفله، الذي قد محل مكان الكرسي في لعبة الكراسي الموسيقية، أو يكون الموضع الأمثل لإحدي الزهريات على مائدة طعامك التي تلتف حولها مع اسرتك، أو الشيزلونج بغرفة معيشتك، يجلس عليه أولادك ليرتاحوا بعد مجهود طويل في يومهم الدراسي، أو يتخذون منه مخبأ في لعبة الاستغماية، يمرون بجواره يوميا وكأنه الثلاجة أو الغسالة في منزلك، ولكنه هنا هو ونيسهم أو هم من يؤنسوا وحدته بعد الممات.

 

في أحد هذه القبور تسكن السيدة صباح أمراة ستينية، حاولت التهرب من عدسة الكاميرا خجلا وخوفا من رد فعل أهلها في صعيد مصر، تعيش منذ أكثر من 45 عاما في هذا الحوش ، قالت: “أنا خرجت من بيتي بنت 15 سنة اتجوزت ابو العيال وعشت معاه هنا في الحوش ده لا عمري احتجت حاجة، ولا عوزت حاجة غير بس غسالة عشان اترحم من سلف الغسالة من أم ناصر اللي جنبنا ست طيبة بس بتقعد تقطمني بالكلام كل ما اطلب منها الغسالة، وأنا صحتي مبقتش زي الأول عشان اغسل على ايدي”. تعيش السيدة صباح بصحبة ابنتها المطلقة، واحفادها الذين تولت هي مسئوليتهم بعد طلاق ابنتها ووفاة  الجد، وهم في مراحل تعليمية مختلفة ، روان في الصف الأول الإعدادي، ورحمة في الصف الاول الابتدائي.

 

يعيشون جميعا في حجرة واحدة تحوي سريرين، ومروحة سقف و تلفاز شديد الصغر، جدران تصدعت وستارة مهترئة ومرآة انكسر نصفها ليظهر في النصف السليم انعكاس صورة السيدة صباح و هي تحدثنا، وعلي وجهها ملامح  الشقاء وعلامات الزمن،  تتعثر قدماك عند خروجك من باب المنزل في بوتاجاز صغير، يحمل حلتين اتخذهما الذباب موطنا ً، لا يخرج منهما رائحة أي طعام.

 

بجوار منزل السيدة صباح منزل الحاجة أم ناصر “مالكة الغسالة”، تشبه ظروف حياتها حياة جارتها، و لكن مع بعض الاختلافات، إن طرقت الباب ستفتح لك بسنت  زوجة ناصر الابن، فتاة لم تتجاوز السابعة عشر من العمر، تزين اصبعها دبلة من الفضة، تلوح بها فرحاً لتخبرك عن صفتها بأنها زوجة ناصر ابن سيدة المنزل.

 

تسرد بسنت قصة الحب بينها وبين ناصر.. التقيا عن طريق زوج صديقة لها فاحبته وأحبها، وتقدم لخطبتها. اعترض أهلها في البداية باعتبارهم من سكان “الأحياء” و ليس القبور، ولكن بسنت تخلت عن كل شئ من أجل ناصر أولهم كان فستان الزفاف و قالت ” لبست طقم خروج حلو، وروحنا اتصورنا وجيت علي هنا” واستطردت: ” أول اسبوع مكنتش بنام بس بعد كده اتعودت، وبعدين ما في الاخر كلنا رايحينله “.. هكذا اكتسب أموات هذا الحوش ونيساً جديداً.. بسنت.

 

التقطت الحاجة ام ناصر -التي رفضت ان تفصح عن حقيقة  اسمها – طرف الحديث: “بسنت دي بنت حلال و مؤدبة و ابني بيحبها و هي عايزة تعيش”، بسؤالها عن حالها قالت : “انا بقالي 36 سنة عايشة هنا جوزي متوفي من شهرين من ساعتها وأنا عيانة كل يوم بمرض شكل، صعبان عليا عيال ابني، وعيال بنتي اللي كان جوزي بيصرف عليهم، أصل ابني ده يوم شغال ويوم لا، وبنتي جوزها ايدك منه والقبراللي جنبك ده، يا عالم لو مت أنا كمان هيحصلهم ايه”، واستأنفت الحديث : “أنا عيشتي هنا بمليون قصر بره كفاية إني بعيد عن الدوشة وعن اذي الناس”، لتجد نفسك عاجزا عن التعبير أمام هذه الكلمات فهل هذه عيشة آدمية لمثل هؤلاء من سكانها و مفضليها، أم كلماتهم تلك بمثابة مواساة لأنفسهم عن وضعهم الذي لا يحسدون عليه؟.