الحالة السودانية للــمزاج

”أغلبية السودانين صنفين. واحد صاحب سيجارة [ يقصد يدخن المخدرات] وواحد صاحب كاس [أي يتناول الخمور].“ يقول لـــ ”مراسلون“، هيما، سوداني مقيم في القاهرة، وصاحب مزاج قديم، وله باع في عالم المكيفات، ولا يعدم سبل توفير أي نوع منه.

يحرص السودانيون على مصاحبة المزاج أينما حلوا واستقروا، ولا تعني المداومة على المزاج انقطاع العبادة، يقول هيما ”فيهم ميزة، الواحد ميمسكش الكاس طول اليوم، بس يقوم من صلاة العشا ويدور على الكاس“.

في الحالة السودانية للــ”مزاج“، يغلب تدخين البانجو على تدخين الحشيش. ”عوامل الجو ليها عامل. يعني اللي ينفع تشربه هناك ما ينفعش تشربه هنا. هناك جو جاف، وهنا جو رطب. عشان كده الحشيش مش مستحب. دا أنت لو خدت حتة حشيش معاك هناك تنشف من حرارة الجو.“

ويعد البانجو السوداني شكل من أشكال القنب الهندي، الذي تختلف صفاته الشكلية بحسب تغيرات المناخ في الأقاليم والارتفاعات المزروع فيها. ووفق للإدارة العامة لمكافحة المخدرات بالسودان، فإن ٦٠٪ من انتاج إفريقيا من القنب يزرع هناك.

البانجو السوداني

”البانجو بيتفرد على ورق الجرايد ويترش عليه ميه [ماء] مخلوطة بعسل وبعدين يتلف ويتحفظ في مكان بعيد عن الشمس “، يقول خليل، سوداني آخر مقيم بالقاهرة، لــ”مراسلون“، موضحًا طرق حفظ وتخزين البانجو في السودان، حيث يساعد العسل على التصاق أوراق البانجو بعروقه وأن يصبح كالقمع، صلبًا يحتاج لأن يُكسر ويُطحن حتى يتسنى استخدامه.

يفتش السوداني المقيم في مصر عن مزاجه الوطني ويسعى لتوفيره بشتى الوسائل، وتتنوع الطرق التي يتم بها تهريب البانجو السوداني إلى مصر، من إخفائه في الملابس والحقائب أو إدخاله في أماكن حساسة في جسم المسافر، وخاصة بعد انتشاره وذيوع صيته في مصر وظهوره على قائمة الممنوعات منذ مطلع التسعينات.

”زمان لما كان يبقى معاك بانجو وحد في مصر يقابلك ميعرفش إيه ده “ يقول خليل ويضيف ”وكان السودانين من الباعة المتجولين بيبيعوه على فرشة في الشارع كنوع من أنواع العطارة“.

بحسب خليل، عرف السودانيون البانجو قديمًا عن طريق الجمال، فقد كانوا يجمعون العشب لإضرام النار في أثناء رحلاتهم، وكان من بين ما يُحرق أوراق البانجو التي سرعان ما لوحظ أثرها على سلوك الجمال أولًا ثم على أفراد القوافل بعد استنشاق الدخان المنبعث منها، حيث كانت الجمال تزداد هدوءًا ويزداد الرجال خشوعًا في صلاتهم.

تتشابه رواية خليل مع ما ذكره المقريزي في كتابه ”الخطط“، عن أن المتصوفة لعبوا دورًا في اكتشاف الكيف: ”كان أول ظهور الحشيش عام ٦١٧ه على يد الشيخ حيدر، شيخ الفقراء المتصوّفة؛ ولهذا سمّيت حشيشة الفقراء“.

ومما ذُكر أيضًا أن الشيخ حيدر، ومنه تنحدر لفظة الحيدرية، أحد الأسماء القديمة للحشيش، كان يأكل نبات القنب ويأمر مريديه بتقليل الطعام والإكثار من أكله، فقد روي عنه أنه كان يقول لمريديه: ”إن الله خصّكم بسر هذا الحشيش ليذهب بأكله همومكم الكثيفة ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة، فراقبوه فيما أودعكم وراعوه فيما استرعاكم“.

وعلى ما يبدو أن انتشار الطرق الصوفية في السودان، حيث يقترب عددها من ٤٠ طريقة منتشرة وفاعلة في ربوع البلاد، وفقًا للباحث ضياء يوسف العظمة، في كتابه ”جيش رجال الطريقة النقشبندية“، قد أسهم في تأصيل عادات منها تدخين البانجو، وخاصة أن هذه الطرق لم تكن تحرمه كما تحرم الخمر.

الشاشامندي

ومن بين المكيفات التي اعتاد عليها السوداني ويسعى للحصول عليها في إقامته في مصر ”الشاشامندي“، زهرة الزهرة في عرف ”ضاريبة “ [متعاطو] البانجو في السودان. و”الشاشامندي“ شكل من أشكال القنب الهندي يُزرع في أثيوبيا، في مدينة شاشمني، وإليها ينسب اسم العشبة.

وتقع شاشمني جنوب أديس آبابا و بها قرية عند مدخلها يقطنها جماعة ”الراستافارية“ أو الراستا، وهم اتباع حركة دينية اجتماعية تقبل بالإمبراطور هيلا سيلاسي الأول (١٨٩٢-١٩٧٥)، الإمبراطور السابق لأثيوبيا، باعتباره تجسيدًا للرب، نشأت في جامايكا في الثلاثينات وانتشرت بعد ذلك وكان من بين اتباعها المغني الجامايكي الشهير بوب مارلي. ومن المعروف أن تدخين القنب واحدة من أهم طقوسهم.

”سيجارة الشاشامندي فجورة [كارثة] “ يقول هيما ويستطرد ” أول ما شربت منها نفسين هناك [في السودان] قعدت مكاني مقدرتش أقوم… بس جبت منه معايا سنة ١٩٨٧ وأنا جي من السودان وكنت شايله في علبة كبريت ماكانش حد ساعتها يعرفه هنا، وكان ليا صحاب ضاريبة شربوا سيجارة واحدة مقدروش يكملوا التانية “.

والشاشامندي، بحسب رواية استمع إليها هيما من بعض العجائز في السودان، يزرع في حقول أثيوبيا، ويطلق فيها الأفيال بعد تجويعها لتأكل ما استطاعت من أوراقه، لتسقط بعدها لا تتحرك من مكانها حيث يجمع من تحتها فضلات ما أخرجته بعد هضم العشب المخدر ليوضع بعد ذلك في قشور الموز ويلف عليه خيط مكونًا ٣٢ حلقة، ويترك ليجف.

رواية غير مؤكدة لم يُعثر لها عن مرجع، لكنها تعطي للمخدر هالة أسطورية تتماشى والمسحة العجائبية الخاصة بشعوب السودان، وإن كانت تتشابه وطريقة تصنيع قهوة العاج الأسود، أشهر وأغلى أصناف القهوة في العالم، التي تستخرج هي الأخري من روث الفيلة بعد هضمها لكرز البن المزروع حيث تتدخل الإنزيمات الهاضمة عند الأفيال في كسر بروتين القهوة المسئول عن مرارة القهوة.

المضغة

السعوط، أو المضغة، أو السفة أو التمباك اسماء متعددة لأوراق التبغ الممضوغة والمستخدمة في السودان، حيث يبلغ نسبة متعاطي السعوط هناك ما يقارب ٢٤ ٪ في المدن و ٣٢٪ في القرى، وذلك وفق دراسة أجرتها كلية طب الأسنان في جامعة العلوم الطبية بالسودان عام ٢٠١٤.

يتوافر السعوط مع تواجد السودانيين، باعتباره أحد علامات الكيف السوداني، ويتناوله الرجال والنساء، ويذكر هيما أنه كان يباع في أكشاك السجائر قديمًا في القاهرة.

يضاف على السعوط العطرون (حجر صخري يحتوي على كربونات الصوديوم) وبعض الماء لطبخ المضغة وتخميرها أو ما يعرف بالـــ”تمطير“. وتعد ولاية شمال دارفور هي المنتج الرئيسي لتمباك في السودان، حيث أُنشئت منذ ثلاثينيات القرن الماضي بورصة لشراء وبيع محاصيل التمباك، في الفاشر عاصمة ولاية شمال درافور.

تُكور المضغة وتوضع أسفل الشفة العليا أو السفلى مباشرة على اللثة لتُمتص. ويختلف نوع السعوط المباع بحسب كمية العطرون المضاف إليه ونوع نبتة التبغ المستخدمة فيه.

العرق السوداني

وعلى قائمة المزاج التي يحرص السوداني على توافره في أماكن تواجده في مصر، يأتي مشروب التمر المخمر أو عرق البلح. وهو من الخمور السودانية الوطنية التي تصنع في البيوت إما للاستخدام الشخصي أو للبيع ولا يختلف الأمر في القاهرة، يقول هيما: ”فيه هنا ناس سودانين بتصنعه، أسر كاملة بتشتغل فيه وبتبيعه، في الدقي والمعادي ومدينة نصر.“

تعمل هذه الأسر على تخمير وتقطير عرق البلح في البيوت، حيث يُخلط البلح بالماء مع الخميرة، ويُترك حتى يختمر لثلاثة أيام، وبعدها يُقطر السائل الصافي والرائق كالماء في عبوات بلاستيكية كبيرة ثم يصب ويباع في أكياس و زجاجات بلاستيكية.

ورغم تجريم الخمور في السودان منذ أيام الدولة المهدية (١٨٨٥-١٨٩٨)، وخلال حكم جعفر النميري في سبتمبر ١٩٨٣، ألا أن هذه لم يؤثر كثيرًا في صناعة وشرب الخمور بأنواعها المتعددة من عرق بلح ومريسة ونبيت، وهي خمور ذات مزاق فريد بحسب وصف شاربيها، بل إن لها جمهور مصري أيضا، إذ يذكر هيما أن هناك مصريون من أصحاب الكأس قد جربوا العرق السوداني واستقروا عليه كمشروب مفضل لديهم.