“تمثال من البرونز للإله ايبيس ارتفاع 114 سم – سُلم لمدير السكرتارية الخاصة بالسيد الرئيس ضمن 12 قطعة أثرية للإهداء- بناء على تعليمات السيد رئيس الجمهورية”.. كانت تلك فقرة من سجلات وزارة الآثار عن القطع الأثرية التي خرجت من المتاحف والمخازن لإهدائها لشخصيات وهيئات أجنبية مرورًا برئاسة الجمهورية في عصر السادات (1970-1981).

معابد ومسلات ومقبرة كاملة وقاعات من قصور وقطع أثرية بعضها نادر خرجت من بتعليمات من زعماء مصر كهدايا لشخصيات عامة ولهيئات عامة، ومنذ محمد علي وحتى الرئيس السادات كانت الآثار المصرية جزء من اللعبة السياسية ومنحها تعبيرًا عن التقدير السياسي، فحصل رؤساء وهيئات في إنجلترا وفرنسا وأمريكا والاتحاد السوفيتي وألمانيا على قطع أثرية مباشرة من قصور الملوك والرؤساء كهدايا.

كما لا يوجد إحصاء رسمي للآثار المصرية في الخارج، لا يوجد أيضًا إحصاءًا رسميا عن عدد القطع الأثرية التي خرجت من مصر عبر قصور الملوك والرؤساء، لكن يعدها المستشار أشرف العشماوي في كتابه “سرقات مشروعة” بالآلاف.

وتبدأ الحكاية “المسجلة” لإهداء القطع الأثرية المصرية إلى الشخصيات العالمية في عهد محمد علي (حكم مصر ما بين 1805 – 1848) وعلى الرغم أنه أول من منع خروج الآثار من مصر إلا أنه أمر بنقل مسلة بالأقصر كانت إحدى مسلتين تزين مدخل معبد رمسيس الثاني منقوش عليها عبارة “رمسيس قاهر كل الشعوب الأجنبية، المحارب الذي هزم الملايين من الخصوم والأعداء والذي خضع العالم كله لسلطانه ذو القوة التي لا تُقهر” وتم شحن المسلة على سفينة إلى فرنسا كهدية لملكها لويس فيلب كنوع من المجاملة السياسية وحتى الآن هي تزين ساحة الكونكورد بفرنسا منذ أكثر من 180 عامًا، كما أهدى محمد علي أيضًا مسلة تحتمس الثالث إلى إنجلترا، بينما أهدى الخديوي توفيق مسلة أخرى لتحتمس الثالث إلى أمريكا وهي تزين حديقة سنترال بارك في نيويورك.

ونهب الغزاة المسلات المصرية ونقلوها إلى بلادهم وهي الآن منتصبة في ميادين روما ورومانيا وتركيا والفاتيكان وغيرها من الدول.

وبعدما اكتشف ملوك مصر من أسرة محمد علي ولع الأوربيين بالحضارة المصرية توسعوا في إهدائهم القطع الأثرية النادرة والتي لا تقدر بثمن لأسباب سياسية ووجاهة اجتماعية، وكان ملوك مصر يتعاملون مع الأمر باعتبارهم يملكون ما فوق سطح الأرض وباطنها، كما أن الشعب المصري حتى وقت قريب كان لا يهتم بالآثار الفرعونية، وحتى الآن يطلق البعض على التماثيل الفرعونية “المساخيط”، ففي عهد الملك فؤاد خرجت مقبرة فرعونية كاملة واستقرت في متحف تورينو بإيطاليا وهي مقبرة الفنان “خا” التي تم اكتشافها في منطقة دير المدينة بالبر الغربي بمحافظة الأقصر، وكانت تلك المنطقة مليئة بمقابر ومنازل العمال والفنانين الذين بنو وزخرفوا مقابر ومعابد الملوك والملكات في الدولة الحديثة.

وفي زيارة الأرشيدوق النمساوي ماكسيمان لمصر كان يتضمن برنامج زيارته أحد قصور المماليك القديمة فأبدى إعجابه بإحدى قاعات القصر فأمر الخديوي عباس الأول بنقل القاعة بالكامل إلى النمسا.

قانونًا لا تستطيع مصر المطالبة بالآثار المهداة من الملوك والرؤساء ولا حتى يمكن استعارتها أو الحصول على مقابل عرضها في المتاحف العالمية، حتى تلك القطع التي اغتصبت أثناء احتلال مصر، وتتعامل الدول التي بحوزتها آثار الحضارة المصرية أنها مقتنيات ثقافية خاصة بها.

داخل المتحف المصري سجلات هدايا ملوك مصر من القطع الأثرية لكل عهد سجل أبرزهم السجل المذهب للملك فاروق بما تفضل واختار من معروضات المتحف ليهديها إلى ملوك الدول الأوروبية أو التي يحتفظ بها في قصوره.

وبعد ثورة يوليو لم يتغير الوضع كثيرًا ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر خرجت آثارًا مصرية من خلال رئاسة الجمهورية أيضًا كهدايا لتحسين العلاقات السياسية، يقول محمد حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب”، (.. جمال عبد الناصر أهدى إلى الاتحاد السوفيتي آنية قديمة من المرمر من مخازن سقارة قدمت في احتفال رسمي عقدته اللجنة المركزية في الاتحاد السوفيتي بعد إتمام بناء السد العالي، كما قدم آثارًا أخرى إلى المتحف الوطني في طوكو ومتحف الفاتيكان، كما أهدى الرئيس كندي آنية فرعونية بمناسبة إنقاذ آثار النوبة وهي موجودة في البيت الأبيض حتى الآن..إلا أن إهداءات عبد الناصر لا تتعدى صفحة واحدة ضمن سجلات الإهداءات لملوك ورؤساء العالم).

يقول المستشار أشرف العشماوي عضو اللجنة المصرية لاسترداد الآثار بالخارج الأسبق إن صفحات الإهداءات الرئاسية الرسمية منذ عام  54 وحتى عام 70 غير موجودة حاليا، ولا نعرف حصرًا لهدايا عبد الناصر من القطع الأثرية إلا أن هناك تقارير غير موثقة لهدايا ناصر أبرزها تماثيل فرعونية للطائر أيبس أهدها ناصر لرؤساء الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي.

ورغم كلام هيكل والعشماوي فقد أهدي جمال عبد الناصر 4 معابد وإحدى بوابات معبد كلابشة لخمس دول تقديرًا لجهودهم في إنقاذ آثار النوبة من الغرق أثناء بناء السد العالي.

فحصلت أمريكا التي أرسلت خبراء وأنفقت 50 مليون دولار على معبد دندور الذي شيد في العصر الروماني بمساحة 25 مترًا على شاطئ النيل الغربي جنوب محافظة أسوان، واصدر عبد الناصر قرارًا جمهوريًا عام 1964 بإهداء المعبد لأمريكا وتم تشييده في متحف المتروبوليتان بنيويورك‏ منذ عام 1978م.

وحصلت ألمانيا على إحدى بوابات معبد كلابشة الشهير وهي البوابة المعروفة بـ”البطلمية” لنفس السبب، فيما كان نصيب إيطاليا معبد الليسيه، واستقر معبد “طافا” في هولندا، وحصلت أسبانيا على معبد “دابود”.

يقول الدكتور زاهي حواس رئيس الآثار الأسبق إن هذه المعابد حجمها صغير وأهدها عبد الناصر إلى الدول تقديرًا لجهودها في إنقاذ آثار النوبة من الغرق منها معبد فيلة وأبو سمبل وكلابشة.

وحسب السجلات الرسمية بدأ الرئيس أنور السادات بإهداء القطع الأثرية لعدد من الملوك والرؤساء وحتى الشخصيات العامة وزوجاتهم، ففي فبراير عام 71 بعد 4 أشهر فقط من توليه منصب رئيس الجمهورية أهدى السادات تمثال واقف للإله أوزوريس ارتفاعه 48 سم عثر عليه في حفائر بني سويف إلى الرئيس جوزيف تيتو رئيس يوغسلافيا، وبعدها بشهر واحد فقط قدم تمثالا للإله إيزيس تقوم بإرضاع الطفل حورس ارتفاعه 22 سم إلى الرئيس برجينيف رئيس الاتحاد السوفيتي، وعلى مدار إحدى عشر سنة حكم فيها السادات مصر بلغت هداياه من القطع الأثرية إلى الدول الأجنبية أكثر من 100 قطعة خرجت بتعليمات مباشرة منه عبر رئاسة الجمهورية.

وكانت هدايا السادات للرؤساء والملوك تكشف عن استهانة بمنح الآثار المصرية التي لا تقدر بثمن، فكانت بعض المناسبات أعياد ميلاد لشخصيات عامة مثل عيد ميلاد الرئيس تيتو الثمانين الذي حصل فيه على تمثال للطائر أيبس مصنوع من الخشب والأرجل والرقبة من البرونز كهدية من الرئيس السادات، كما حصل الرئيس نيكسون على تمثال جالس للإله إيزيس وجد في حفائر بني سويف كهدية بمناسبة زيارته إلى مصر، وبعد شهر واحد من حرب أكتوبر في 18 نوفمبر عام 73 أهدى الرئيس السادات تمثال للطائر نفسه إلى وزير الخارجة الأمريكي هنري كيسنجر.

كما أهدى الرئيس السادات تمثالًا من البرونز لأزوريس وعليه تاج الأتف ويمسك بالصولجان للرئيس الفرنسي جيسكار ديستان عام 75 بمناسبة توليه منصب رئاسة الجمهورية.

الأغرب في سجل الإهداءات الأثرية في عصر السادات هو خروج إناء أثري مصنوع من المرمر كهدية للمليونير اليوناني أرسطوطل أوناسيس، كما حصل شاه إيران على أكثر من قطعة أثرية من الرئيس السادات.

وكانت زيارة الرئيس السادات إلى أمريكا تعني خروج قطع أثرية من المتحف المصري أو مخازن وزارة الآثار إلى قصر الرئاسة ليتم تغليفها لتستقر كهدايا لا تقدر بثمن للمسئولين والهيئات.

ولم تسلم الآثار المصرية من زوجة الرئيس السادات التي أهدت منها قطعًا لزوجات الرؤساء منها تمثال للطائر أيبس أهدته جيهان السادات إلى حرم رئيس الفلبين عام 76، كما أهدت حرم رئيس المكسيك عقدًا أثريًا في منتصفه تميمة حورس بمناسبة مرور 2500 عامًا على الإمبراطورية المكسيكية.

ورغم ما شاب عهد الرئيس المخلوع مبارك من فساد إلا أن سجلات الإهداءات لم تذكر هداياه الأثرية، ورغم البلاغات التي قدمت ضده تتهمه وحرمه سوزان بتهريب الآثار وسرقتها إلا أنها جميعا حفظت لعدم وجود أدلة، وختمها تصريح وزير الآثار الدكتور محمد إبراهيم نهاية 2012 أنه لم يعثر حتى الآن على أي دليل يثبت خروج أي قطعة آثار من المتحف المصري كهدايا رئاسية في عهد الرئيس الأسبق مبارك لإهدائها لزوار مصر.

 

 

صورة أرشيفية للمسلة المصرية المنصوبة أمام جامع السلطان أحمد باسطنبول – تركيا

تصوير: محمد فرج