في كتاب “الخروج في النهار”؛ البردية المصرية المعروفة بـ”كتاب الموتى”، ورد قَسَم المصري أمام آلهته القديمة، وتضمن اعترافات من قبيل “لم أسلب قرابينَ الموتى، لم أزنِ، لم أنجِّس نفسي في معبد إله مدينتي، لم أزِد أو أنقص المكيالَ، لم أغش في مقياسِ الأرضِ، لم أتلاعب في مثقالِ الميزان”. هذا القَسَم لم يعُد يعمل بالعصر الحديث، وأصبح سلب قرابين الموتى حرفة، ومحتويات مقابرهم كنزًا قديمًا يبحث عنه المقتنون، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات.

 

مزادات مفتوحة على الحضارة

لو أنك تملك أكثر من نصف مليون دولار، يمكنك الانضمام والمزايدة لشراء رأس أمنحتب الثالث، حيث تقيم  دار مزادات “كريستيز” في مساء 25 أكتوبر الجاري، مزادًا لبيع رأس تاسع ملوك الأسرة الثامنة عشر، وتتوقع “كريستيز” ألا يقل سعر القطعة الحجرية، التي يزيد عمرها على 3300 عامًا، عن 200 ألف دولار أمريكي، وقد يصل سعرها إلى 300 ألف دولار، حسب تقديرات دار المزادات. أعلن اكتشاف مقبرة أمون حتب ضمن اكتشافات الدير البحري عام 1881، إلا أن مقبرته وجدت خالية ومهدّمة، ويرجّح أن محتويات مقبرته بيعت على يد قبيلة الحربات بالقرنة، قبل أعوام من إعلان اكتشافها، في أحداث حقيقية استوحى منها المخرج المصري شادي عبد السلام فيلمه الشهير “المومياء.. يوم أن تحصى السنون”.

تقديرات “كريستي” لبيع الرأس الحجرية ليس مبالغًا فيها، فقد بيعت رأس حجرية أخرى، أدنى مكانة من  رأس فرعون، وأصغر عمرًا بنحو ألف عام، بـ181 ألف دولار، حيث عقدت دار “بونامز” للمزادات في لندن مساء السادس من يوليو الماضي، مزادًا بيع فيه 204 قطعة أثرية من حضارات مختلفة، كان للآثار المصرية النصيب الأكبر فيها بـ 144 تحفة وقطعة أثرية، كما كان لها الصدارة من حيث أغلى قطعة بيعت خلال المزاد؛ قطعة من تمثال جرانيت أسود لرأس كاهن من الأسرة السادسة والعشرين، وبيعت مقابل 137 ألف يورو، بحسب “بونامز” في بيانها الصحفي.

 

(تحديث: تم بيع رأس أمنحتب الثالث بمبلغ مليون و400 ألف دولار تقريبا)

رحلة البحث عن مقبرة

“مقابر الكهنة، هي السلعة الرائجة هذه الأيام في سوق الآثار، وما تحويه من مخطوطات ومجوهرات وتماثيل، لا تقل قيمتها عن عشرة ملايين دولار” يقول محمد إبراهيم -اسم مستعار- يعمل كطبيب بالأساس، فيما يعمل كمشرف ووسيط على عمليات تنقيب غير رسمية تتم أسفل منازل يُعتقد في اختباء آثار قديمة تحتها.

كان محمد إبراهيم، دليلي للعبور من عالم المصريين الأحياء إلى مقابر المصريين الموتى، المكان: منزل بُني حديثًا بأرض زراعية في قرية تابعة لإحدى مراكز كفر الشيخ، على مبعدة من بيوت أخرى واقعة في الأراضي الزراعية بالقرية، مساحته تقارب 150 مترًا، دوره الأرضي بلا جدران داخلية، فقط ساحة واسعة تملؤها أعمدة خرسانية تنتصب على أرض إسمنتية، بفراغ مستطيل في أرضية إحدى أركانها، إلى جوارها ينتصب موتور لسحب الماء الناتج عن الحفر، وأعلى هذه الفراغ عُلقت بكرة تستخدم كرافعة كبيرة لما ينتج عن حفر الأرض، وداخله توجد سقالة مائلة تُستخدم كسلم يُفضي إلى فراغ أسفل الحصيرة الخرسانية؛ بني هذا المنزل بدوريه على هذا الشكل بالأساس كغطاء للحفر أسفله، للمنزل سلم خرساني يصعد بك مباشرة للدور العلوي، وفي الأسفل جدران من الطوب، وباب واحد ينفتح على الدور الأرضي.

 

يمكن الاقتراب ولكن ممنوع التصوير

عند اقترابي من المنزل، حاولت تصويره من الخارج بكاميرا الهاتف إلا أن إبراهيم نبهني ألا أفعل، وعند دخولي المنزل طُلب مني إعطاء الهاتف -بعد فك بطاريته- لأحدهم، فعلت مثلما أُمرت ونزلت عبر السقالة الخشبية إلى الأسفل، أعطاني إبراهيم وشاحًا، ومثلما فعل، غطيت به نصف وجهي إلا أنه لم يمنع رائحة المكان القوية، ثمة مسار خشبي يعبر الأرض الطينية وحولها حُفر صغيرة تنشع بالمياه، و3 عمال يغطي كل منهم وجهه، مع معدات حفر بدائية وموتور لشفط المياه. لم أجد خلال دقائق بقائي في القبو الطيني ما يثير الاعتقاد بأنه يخبئ مقبرة قديمة، فقط مياه وطين وروائح قوية، إلا أنه يقول أن ثمة شيخ يؤكد أن هذه الأرض تخبئ كنزًا ما.

 

هيراركية الباحثين عن الآثار

سأعرف بعد مغادرتي المنزل وفي طريق العودة أن إبراهيم قدمني باعتباري مهندس معماري سيعاين المبنى ويقدم استشارة بخصوص الحفر وطبيعة التربة، وأن “عمليات التنقيب العشوائية يحكمها نظام قوي يصعب اختراقه؛ تبدأ هرمية هذا النظام بمجموعة قوامها أربعة عمال على الأكثر، هم المسؤولون عن الحفر، سحب المياه الجوفية، وإخفاء بقايا الحفر” بحسب إبراهيم، في الطبقة الأعلى يأتي المشرف –إبراهيم- الذي يتابع هذه العملية وينظم مواعيد الحفر، ثم يأتي الشيخ؛ يقول إبراهيم “الشيخ هو أهم شخص في العملية كلها” ويشرح الطبيب صباحًا، المشرف مساءً، دور الشيخ قائلًا: “هذه المقابر محروسة من قِبل الجان وأعمال السحر، حتى أن سكان المنزل القائم –إن كان منزلًا قديمًا- فوق المقبرة قد يكونون ملبوسين بالجن الحارس للمقبرة، وهنا يأتي دور الشيخ للتعامل مع حراس المقبرة، إما بترضيتهم أو طردهم” ويتابع أن “هناك أسماء لامعة في هذا المجال بطول مصر”،يوضح الطبيب أن الشيخ ملتزم بمتابعة عملية الحفر، حتى إتمامها بخروج كنوز الأرض من باطنها، يأخذ أجرًا يوميًا مع سيارة تنقله من وإلى نقطة الحفر، كما يحصل على مكافأة في نهاية عمليات الحفر.

لكل نظام رأس، لا سيما نظام يقوم على عمل مجرّم قانونيًا، لابد من رأس توفر الحماية والردع، يقول إبراهيم إن “كل هذه المنظومة يقودها من بعيد، رجل ذو رتبة عليا بجهاز الدولة، يؤمن تنقيبهم، ويشرف على العملية كلها، ويعمل كوسيط مع خبير الآثار الذي سيقيم المحتويات، والجهة/الفرد الذي سيشتريها، ويؤمن نقل المحتويات وبالطبع يوفر الحماية للتنقيب خارج إطار القانون، وردعًا للعاملين على الحفر، يحرك جميع الأطراف دون أن يتحرك وأنه -أي إبراهيم- هو ممثله داخل المنزل مقر الحفر” ويتابع “أنه لا يملك هذا المنزل، يملكه، شريكه في عملية الحفر، رجل أعمال يستثمر في العقارات، التي تعمل كغطاء كافي لأعمال التنقيب وحتى غسيل الأموال الناتجة عن العملية”.

 

وسطاء وزبائن

قدم لي إبراهيم فيديو قديم، لمقبرة كاهن اكتشفت منذ عام –تحتفظ مراسلون بنسخة منه- وانتقلت مطلع العام الجاري إلى إحدى الدول الأوروبية، هذا الفيديو (دقيقتين تقريبًا) يكشف محتويات المقبرة المعروضة للبيع، عرضها مكتشفها على الزبائن المحتملين والذين بدورهم ينتقلون لفحص المحتويات بأنفسهم مع خبرائهم مقابل عشرين ألف جنيهًا على الأقل رسوم فحص، حسب قوله.

كيف يمكنك بيع سلعة يعاقب عليها القانون؟ بين البائع والمشتري تتولد علاقة تحكمها تجارب سابقة، والآثار التي يعاقب على تجارتها القانون لها زبائنها؛ أجانب في الغالب، يقول إبراهيم إنه حضر عملية التنقيب التي تم التوصل فيها لمقبرة الكاهن، والتي تستقر غالبية محتوياتها الآن في إحدى الدول الأوروبية”، حسبما يعتقد، حيث ينتهي دوره عند مصاحبة الوسطاء وخبراء الآثار أثناء فحصها، ويتابع أن بعض السفارات تتحمل كلفة وتمويل عملية التنقيب منذ بدايتها، وتتولى نقلها وشحنها ديبلوماسيًا إلى دولها، بوساطة من رجال أمن كبار.

وما يتبقى يُعلن عنه لزبائن قدامى عرب أو رجال أعمال كبار، وثمة طريقة بدائية للإعلان المجاني عن خبيئة معروضة للبيع تتمثل في تصويرها محتوياتها، وتداول الفيديو بين الوسطاء والزبائن، برعاية رأس المنظومة الصغيرة، ومنها هذا الفيديو الذي شاهدته.

يحكي إبراهيم أن هذه السوق غير القانونية تفتح مجالات كبرى للاحتيال، بعرض تحف مقلدة أو مزيفة يتم تصويرها لاستدراج الزبائن السذج الذين سيدفعون رسوم المعاينة، لتنتهي بسرقتهم في النهاية، ويتابع أن يوتيوب يمتلئ بمثل هذه الفيديوهات للمقتنيات المزيفة.

 

كيف يعاقب القانون؟

مطلع الشهر الجاري أحال مجلس النواب، 16 مشروع قانون مقدمة من الحكومة إلى اللجان النوعية المختصة، منها تعديل قانون رقم 117 لسنة 1983 بقانون حماية الآثار، والتي تنص على أنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه كل من قام بتهريب أثر إلى خارج الجمهورية أو اشترك في ذلك، كما نصت المادة 41 من القانون، كما نصت المادة 42 على إنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه كل من قام بسرقة أثر أو اشترك في ذلك. فيما قد يخضع لهذه العقوبات 3 أشخاص ألقت مباحث الآثار القبض عليهم مطلع الشهر الجاري أيضًا، وبحوزتهم 120 قطعة أثرثة بغرض الإتجار.

فيما يقول الطبيب المنخرط حديثًا في عملية التنقيب عن الآثار وبيعها بابتسامة إن “عقوبة البيع في القانون، تتراوح ما بين 5 و7 آلاف جنيهًا، وكذلك سجن لمدة أقصاها 7 سنوات” ويضيف “أعتبرها سبع سنوات جديدة للدراسة أو التأمل، مقابل “خبطة عُمر” مرة واحدة”، المقبرة الحالية هي ثاني تجربة لإبراهيم، الذي ينتظر مولودًا جديدًا وخبيئة جديدة.

 

 

صورة أرشيفية لقطعة أثرية من الفترة المملوكية

تصوير: سيد داود واراب