منذ ميلاده في المنصورة (نحو 140 كيلو متر شمالي القاهرة)، لأبوين مصريين، حمل سمير علي، (اسم مستعار)، 19 عامًا، مهندس برمجة، أولى وثائق المواطنة، شهادة الميلاد، ويُفترض قبل إتمام عامه الثلاثين أن يحمل آخر تلك الشهادات، والمتعلقة بالخدمة العسكرية الإجبارية؛ إما شهادة بتأديتها أو الإعفاء منها؛ والتي باستخراجها يُسمح له رسميًا ببدء حياته العملية. حيث تُطلب هذه الشهادة رسميًا ضمن مسوغات التعيين داخل منظومة العمل المصرية بقطاعيها الحكومي والشركات الخاصة، تُطلب أيضًا لدى استخراج الهويات الرسمية، جوازات السفر والبطاقات الشخصية. وفي الطريق ما بين شهادة الميلاد وشهادة الخدمة العسكرية المصريتين، يستخرج المواطن على الأقل ثلاث شهادات تعليمية بعد أن يخضع لنظام تعليمي، يُفترض أن يؤهله لسوق العمل.

النظام التعليمي.. قراءة موجزة

هكذا كان يعمل النظام؛ العمل هو غاية التعليم، ويتحدد المسار العملي بثلاثة مكاتب ومركز واحد؛ مكتب السجل المدني، ومكتب التنسيق، ومركز التعبئة والتجنيد ومكتب القوى العاملة، يولد الطفل ثم يبدأ دراسته الأساسية، ثم أمامه خياران أحدهما الأقصر عبر التعليم الفني والمهني، أو الأطول بالتعليم الثانوي ثم الجامعي، ومن بعده كل الطرق تؤدي لأداء الخدمة العسكرية مالم يلتحق بتعليم جامعي، والتي يتقدم لها عبر مكتب تنسيق القبول في الجامعات المصرية، لينهي تعليمه ويؤدي الخدمة الإجبارية، وبعدها توفر له الدولة فرصة العمل عن طريق مكاتب وزارة القوى العاملة.

الخروج على النظام التعليمي

الزيادة السكانية، وما تبعها من زيادة طالبي العمل مثلت ضغطًا على إدارة القوى العاملة في مصر، بالتزامن مع ظهور مسارات أخرى وخيارات أكثر، تعتمد على التعلم الذاتي الذي وفره وجود الانترنت في مصر، الذي وفّر سوقًا جديدة للعمل، سلك سمير إحدى هذه المسارات، فعندما أتم 10 أعوام في 2009، كان تعداد السكان في مصر يبلغ أكثر من 76 مليون نسمة، بزيادة نحو 15 مليون نسمة (25%) عن آخر إحصاء أجري في 1996، تلك الزيادة كانت أكبر من أن يحتويها النظام المحدد بالمكاتب الثلاثة، بشكله القديم، قل الاعتماد على مكاتب القوى العاملة، فيما تحرر سوق العمالة مع تطور القطاع الخاص، وازدهار نظم الاتصالات والإنترنت في مصر، وتبعًا لحركة الإنترنت أيضًا، انفتحت سوق جديدة للعمل أساسها الإنترنت، ولتلبية متطلبات السوق الواعدة انتشرت مراكز تدريبية وتعليمية لتعليم لغات البرمجة الجديدة.

في عام 2011 خطى سمير الذي كان بعمر الثانية عشر، أولى خطواته بمسار تعلم البرمجة، وخلال عامين بدأ العمل كمبرمج حر مع عدد من المشروعات الصغيرة بمجال الويب، كان أمامه خياران لتحقيق مساره المهني، إما مواصلة الدراسة النظامية ملتحقًا بالثانوية العامة ثم الجامعة وتأدية الخدمة العسكرية، ليبدأ من بعدها البحث عن عمل داخل سوق متسارعة التطور، أو الالتحاق بسوق العمل مباشرة محملًا بخبرته النامية في مجال البرمجة، وهو ما اختاره بالفعل، أتم دراسته الإعدادية والتحق بسوق يعتمد على المهارات أكثر من الشهادات الرسمية، بحسب تعبيره، وانتقل من مدينته بلقاس (140 كيلومتر شمالي القاهرة) في يونيو 2013، إلى القاهرة للالتحاق بالعمل بشركة متخصصة في تقديم الحلول التقنية وتصميم وإدارة مواقع الويب، وخلال أربعة أعوام تنقّل بين خمس شركات واعدة وشهيرة في مجال الاتصالات، حقق خلالها سيرة مهنية ناجحة داخل مجاله ذي الدخول الشهرية المرتفعة نسبيًا.

التأخر الدراسي بديلًا عن التجنيد

ما الذي يفعله الشباب في مرحلة العشرينات في مصر؟ هل ينتظر إنهاء الدراسة، أم يؤجل الدراسة لصالح تأجيل التجنيد الإجباري؟ يُطلب الشباب للتجنيد بمجرد إتمام التاسعة عشر من عمره، مالم يكن ملتحقًا بمدرسة أو جامعة تؤجل تجنيده الإجباري، وكل المسارات التعليمية تؤدي إلى نتيجة واحدة هي تأدية الخدمة أو الإعفاء منها قبل الالتحاق بالعمل.

يُنظر إلى التعليم الرسمي في مصر حاليًا باعتباره مؤجلًا للخدمة التجنيدية، بحسب يوسف حسن – اسم مستعار، 23 عامًا، طالب بالفرقة الثالثة بكلية التجارة جامعة حلوان. يعمل مهند بأكثر من مسار مهني، مبرمج ويب، ومنظم حفلات ولا ينوي التخرج من الجامعة حاليًا، يعتبر التأخر الدراسي، بديلًا أحسن عن الالتحاق بالقوات المسلحة كمجند إجباري، دخله الشهري جيد، ومستقر، يدير عملًا ناجحًا بحسب تعبيره، ويتابع أنه يؤهل نفسه عبر العديد من الدراسات الحرة والدورات عبر الويب لتحسين سيرته الوظيفية وشهاداته الدراسية التي ستسمح له بالسفر خارج مصر، وبالتالي ستسمح له بإدارة عمله الخاص دون التعطل لتأدية خدمة التجنيد الإجباري.

يعرف يوسف حسن أن خطته تتضمن عدم حصوله على شهادة جامعية، إلا إنه يرى أن شخصًا في مثل وضعه لا يحتاجه، أليس الغرض من التعلم هو العمل؟ هو الآن ناجح في عمله، وآخر ما يحتاجه هو تعطيل عمله الخاص في مقابل تمضية سنة على الأقل مؤديًا خدمته العسكرية، يوضح يوسف أن خياراته واضحة دون مخاطرة، يخطط لئلا ينتقل إلى السنة النهائية بالكلية، ليضمن حرية السفر إلى الخارج دون التقيد بتصريح من مكتب التجنيد.

مخاطرة الخروج على النظام التعليمي

طبقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، خلال مؤتمر “تعداد سكان مصر” الذي انعقد صباح السبت 30 سبتمبر الماضي، فإن سمير، الذي لم يواصل مراحل تعليمه النظامي بعد شهادته الإعدادية، يعد واحدًا من حملة مؤهل تعليمي أقل من المتوسط والبالغة نسبتهم 18.8% من سكان مصر، البالغ عددهم 94.8 مليون مواطن مقيم بمصر، وطبقًا لهذا التصنيف التعليمي، سيُطلب سمير لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، مدتها عامين، تبعًا لمؤهله الأقل من المتوسط، وخلال عامين سينقطع فيهم عن العمل وتطوراته المتسارعة، سيتأثر مساره المهني.

الخيارات المتاحة أمام سمير الملتحق بعمل شديد التخصص، وبخبرة خمسة أعوام وسيرة مهنية جيدة، وشهادة رسمية أقل من المتوسطة، وثلاث شهادات دراسية من مراكز وشركات عالمية بتخصصه في مجاله، إما التقدم لتأدية خدمته العسكرية لمدة عامين، والتضحية بمسار مهني متحقق وواعد، أو الالتحاق بمسار تعليمي مهني مختلف عن مساره -دون الالتزام بالتعلم – فقط بغرض تأجيل التجنيد العسكري، أو الالتحاق بالثانوية العامة من جديد، والتعطل لسنتين عن العمل، أو التهرب من التجنيد إلى أجل غير معلوم.

يملك سمير جواز سفر، إلا أنه لا يمكنه السفر دون تصريح من التجنيد، ويعمل مع شركتي حلول تقنية في الأردن والخليج العربي من داخل غرفته بالقاهرة، ويدرك كلما تحرك داخل القاهرة أو خارجها احتمالات الاشتباه به وطلبه لتأدية الخدمة العسكرية، وبالطبع لا  يخضع لشروط وضوابط قانون العمل المصري، باعتباره خارج الإطار الرسمي، فلا ضمان لحقوقه كموظف ولا ضرائب يدفعها كأي مواطن عامل.

النظام التعليمي في مصر .. إعادة قراءة

تطرح حالتا سمير علي ويوسف حسن، كمثال على شريحة كبرى من العاملين المتخصصين خارج الإطار الرسمي للدولة، تساؤلات حول طبيعة النظام التعليمي في مصر ومدى توافقه مع تطورات سوق العمل، فالمسارات المهنية التي سلكها الاثنان لم يكمل عمرها 10 أعوام في السوق، كما إن فرص تعلمها غير مقتصرة على نظم التعليم الرسمية في مصر، كما أن ممارستها يعتمد على المهارة والخبرة والتعلم الحر أكثر من الشهادات الحكومية المعتمدة، وأيضًا كيف يمكن احتواء ذوي الخبرة من خلال توفير برامج تدريبية حكومية، بشهادة معتمدة لتوفيق أوضاعهم كمواطنين يمارسون حقهم في العمل وواجبهم الاجتماعي في دفع الضرائب داخل الدولة.

وتطرح أيضًا قراءة مختلفة للنظام التعليمي في مصر، باعتباره مسار طويل، يسمح بتعلم مهارات جديدة خارج إطاره الرسمي، ينتهي بشهادة جامعية ذات وجاهة اجتماعية، تحفظ حقوق حاملها في التعامل كمواطن عامل يمارس واجباته، ويؤجل التجنيد الإجباري.

 

 

صورة أرشيفية من لجنة امتحانات بجامعة القاهرة

تصوير: حازم عبد الحميد