كان الجامع الأزهر من أكثر الأماكن التي تشعرني بالراحة في القاهرة، فبعد أن أجبرتني ظروف العمل على الانتقال للقاهرة، وترك الاسكندرية، بدت القاهرة موحشة بضجيجها وقسوتها، كنت أجلس في صحن الجامع وأتأمل الطلبة – أغلبهم كانوا من غير المصريين- اللذين يحضرون الجلسات في ساحته، وأجد نفسي وكأنني انتقلت لزمن اخر غير زماننا، كانت تلك اللحظات التي استمتع فيها بالجلوس في الجامع العريق هي ما ساعدني على احتمال قسوة العاصمة.

***

بعدها بسنوات كنت في مهمة صحفية بمدينة أسيوط لتغطية حادث اصطدام قطار بأتوبيس مدرسي، ولفت انتباهي مشهد فتية صغار يرتدون الزي الأزهري التقليدي، العمامة والجبة والكاكولا، كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها مشهدا كهذا، ففي القاهرة أو الإسكندرية لا يمكن تمييز طلبة الأزهر من طلبة التعليم العام، الجميع يرتدي نفس الملبس، لكن هنا كان المشهد مختلفا.

 

ظل المشهد محفورا بذاكرتي، إلى أن اتيحت لي الفرصة للذهاب إلى مدينة أسيوط للتحقق من المشهد عن قرب.

 

هنا معهد أسيوط الأزهري، أو معهد فؤاد الاول كما يطلق عليه، يعد أول معهد أزهري في الصعيد، ويرجع اختيار أسيوط مقراً لهذا المعهد لكونها بوسط الصعيد، وحمل المعهد اسم الملك فؤاد إذ تم إفتتاحه عام 1934 وحضر الافتتاح ساعتها الأمير فاروق، الذي صار ملكا على مصر بعدها بعامين.

حضرت طابور الصباح بالمعهد، يقف الطلاب بزيهم الأزهري ليؤدوا تحية العلم، كما يحدث ببقية المدارس المصرية، ولكن هناك إضافة خاصة بالمعاهد الأزهرية تتبع تحية العلم المعتادة وهي: “الله أكبر والعزة للإسلام والمسلمين”.

 

الالتزام بالزي الأزهري في المعهد، يرجع بشكل أساسي لقرار من رئاسة قطاع المعاهد الأزهرية بالصعيد بالالتزام بالزي. وعندما بدأ الطلبة يتحركون لفصولهم بعد الانتهاء من طابور الصباح، لفت انتباهي قلة طلاب المعهد، فعددهم الإجمالي 300 طالب.

يرجع ذلك جزئيا إلى ارتفاع نسبة تحويل الطلاب من الدراسة في التعليم الأزهري إلي التعليم العام، وذكر في هذا السياق تصريحا للرئيس السابق لقطاع المعاهد الازهرية الشيخ جعفر عبد الله قال فيه أن هناك 86 ألف طالب قاموا بالتحويل من التعليم الازهري في عام 2014.

 

وبالأساس تمثل المناهج الأزهرية عبء كبير علي الطالب الأزهري، الذي يبلغ مجموع ما يدرسه من مواد 17 مادة، فجانب المناهج العادية التي يتم دراستها في التعليم العام يدرس الأزهري المواد الدينية واللغوية الخاصة بالأزهر.

 

عام 2006 قام الشيخ سيد طنطاوي –شيخ الجامع الأزهر ساعتها- بإلغاء تدريس الفقة علي المذهب الاربعة، إذ يتخصص الطالب الأزهري منذ الصف الأول الإعدادي في أحد المذاهب المالكي، أو الشافعي، أو الحنفي، و قرر فرض كتب من تأليفه تحت اسم (الفقه الميسر) إلا أن هذا الكتاب المختصر، والذي أثار حفيظة الأزاهرة المتشددين لم يستمر في تدريسه طويلا، فمع تولي الشيخ أحمد الطيب مشيخة الازهر قرر إعادة تدريس الفقه على المذاهب.

 

هذا بالإضافة لمادة القران الكريم، والتي تعد في البداية دافعاً أساسيا لدى الأهالي لإلحاق أبناءهم بالتعليم الأزهري، لكنها تتحول بعد ذلك لضغط على الطالب فالهو ملزم بإتمام حفظ القران الكريم كاملاً بإتمام دراسته الثانوية، ويعود مرة أخري في المرحلة الجامعية.

إذ يمتحن الطالب في المرحلة الجامعية كل عام في القرآن الكريم شفويا وتحريريا حسب تخصصه، فالكليات العملية تلزم الطالب بحفظ خمسة أجزاء كل عام، بينما الكليات الشرعية سبعة أجزاء ونصف في العام، على أن يمتحن طالب الكليات الشرعية في القرآن كاملا في السنة الجامعية الأخيرة.

 

الأمر الذي جعل نتائج الثانوية الأزهرية على قدر كبير من الضعف ففي عام 2012 بلغت نسبة النجاح 51% وفى 2013 بلغت 55٫2%. بينما  في 2014 بلغت النسبة  41٫63% .. لتشهد الثانوية الأزهرية خلال عام 2015 أكبر انخفاض فى تاريخها بنسبة 28٫1%.. لتسجل في العام الماضى وتصل لـ 41٫94%.
أما العام الحالى 2017 فحققت ارتفاعا عن سابقه من معدلها الطبيعى لتصل إلى 57.2%.

 

قبل أن أنهي زيارتي للمعهد، تجولت بداخل المكتبة الخاصة بالمعهد، مئات الكتب المرصوصة بعناية واحترام ليستفيد منها ابناء المعهد،  يتناهي لسمعي صوت خارج المكتبة، اخرج، فأجد معلم يعنف تلميذ، وجدتني استرق السمع حتي اعرف السبب الذي من أجله  طلب المعلم من التلميذ خلع عمامته حتي لا تُهان، ووقف  الطالب يده خلف ضهره محني الرأس، مستقبلا  كلام معلمه، الذي كان يعنفه لطلب من رجل كبير مشروب ليشربه. كان المشهد عجيبا، ورجعت إلى القاهرة، وأنا أشعر إني كنت في زيارة لمرحلة تاريخية لم يعد لها مكان الأن.

 

 إقرأ أيضا:

هل يمكن تطوير التعليم الأزهري؟