منذ ربع قرن كنت طالبًا في الأزهر يحلم بالتحويل إلى التعليم العام، كنت أدرس 14 مادة وزميلي في نفس الصف بالتعليم العام ليس لديه سوى 5 مواد فقط، كانت المناهج صعبة والكتب ثقيلة لكن التحويل ممنوع، كانت الثانوية الأزهرية وقتها 4 سنوات، في نهاية السنة الرابعة كنت استمع لإذاعة القرآن الكريم التي تذيع نتائج المدارس، وهالني ساعتها عدد المدارس التي يذكر المذيع بعد اسمها جملة واحدة “لم ينجح أحد” كنت واثقًا أنني هالك لا محالة.

***

2 مليون تلميذ وطالب هم قوة التعليم الأزهري قبل الجامعي يدرسون في أكثر من 9 آلاف معهد ديني على مستوى الجمهورية، يهرب منهم سنويًا عشرات الآلاف إلى التعليم العام، وتوقعات بتحويل 150 ألف طالب العام الحالي وتقارير صحفية تتحدث عن انتهاء التعليم الأزهري قبل الجامعي خلال 5 سنوات إذا جرت التحويلات بنفس المعدل.

***

في الطريق إليه كنت أحمل سؤالًا واحدًا، أبحث عن حلول لطلاب كنت مثلهم أحلم بالتحويل إلى التعليم العام أحلم بالخروج من المصير الذي وضعهم فيه أولياء أمورهم.. سؤالي كان: هل يمكن أن يتطور التعليم الأزهري؟

الدكتور كمال مغيث الباحث بمركز البحوث التربوية كان أستاذ التاريخ في المعهد الثانوي الذي كنت أدرس به، واجهته بالسؤال فكان هذا الحوار..

***

نسمع كثيرا عن تطوير التعليم العام، هناك دراسات للتطوير ومحاولات ووزير تعليم جديد يفكر في نسف مفاهيم تعليمية ظلت عشرات السنين أهمها فكرة الاختبارات، لكننا لا نسمع عن تطوير التعليم الأزهري لماذا في رأيك؟

 

** لكي نفهم أزمة التعليم الأزهري يجب أن ننظر لتاريخه الذي مر بعدة مراحل أولها النشأة التي كانت على يد الفاطميين عام 996 ميلادية، لنشر المذهب الشيعي وتحول بعد انتهاء دولة الفاطميين إلى جامع يدرس فيه المذهب السني وينشر من خلاله، وكانت الدراسة به بسيطة جدا فكل طالب يختار معلمه الذي يجلس مستندًا إلى عمود وتكون مدة الدراسة عام في كل علم ولم يكن يدرس في الأزهر سوى المواد الشرعية واللغة العربية وهي علوم أطلقوا عليها “المقاصد” لأنها الأساسية وكان يُدرس بعض العلوم الأخرى مثل الفلك والرياضيات لمساعدة الفقيه في الأمور الشرعية مثل مواقيت الصلاة ودخول رمضان والعيد ويسمونها “الوسائل”. وفي عهد محمد علي الذي أراد أن يبني نهضة في مصر ترك الأزهر على حاله، وأرسل البعثات وأنشأ المدارس منها المهندس خانة والطب خانة وغيرها، كان الأزهر قد تطور قليلا حتى أصبح هناك ثلاثة فئات يدرسون فيه المبتدئين وهم التلاميذ الذين يحفظون القرآن والأحاديث، والمتوسطين الذين يدرسون عدد من العلوم الشرعية، ثم العالين وهم يشبهون طلاب الجامعة الآن، متخصصون في علم واحد، وكان ذلك تقليدًا لتطوير محمد علي، وبعد فترة أنشأ الأزهر 3 كليات هي أصول الدين، والشريعة والقانون، واللغة العربية.

***

استمر الأمر على هذا الحال حتى جاء جمال عبد الناصر الذي أراد كل شيء تحت يده فاصدر عام 1961 قانون الأزهر بهدف دمج التعليم الأزهري داخل التعليم العام، عن طريق التحويل بين العام والأزهري فأصبح التعليم الأزهري المتخصص يدرس فيه المواد المقررة على طالب التعليم العام، وأنشأ الكليات العلمية في جامعة الأزهر، وكان طلاب التعليم العام يستطيعون دخول كليات الأزهر والعكس، ولأن عبد الناصر كان حاكم ديكتاتور لم يعارضه أحد، وظل التعليم الأزهري بلا مشاكل تقريبا، لديه 5 معاهد تعليم ما قبل الجامعي في المحافظات هي: القاهرة وأسيوط والإسكندرية والمنصورة وطنطا، وكليات علمية وشرعية في القاهرة، وكان وقتها المجتمع يحتمل وجود التعليم الديني لأن هناك مساجد تفتح ووظائف تتطلب هذا النوع من التعليم المتخصص خاصة وأن عدد الخريجين كان قليلا، وفي عصر السادات الذي انقض على إرث جمال عبد الناصر سمح بالتوسع في بناء المعاهد الأزهرية بلا حساب خاصة بعد عودة الإسلاميين من الخارج الذين اعتبروا بناء المعاهد الدينية زكاة عن أموالهم وتقرب إلى الله، فبدأت العشوائية، وانتشرت المعاهد، وقدم أولياء الأمور أوراق أبنائهم في المعاهد الدينية الأزهرية تماشيًا مع دولة العلم والإيمان، وتم التضييق على عملية التحويل شيئًا فشيئأ، فأصبح التعليم الأزهري يكتفي بطلابه، فبرز نسق موازي للتعليم العام به 10% من الطلاب في المرحلة قبل الجامعية.

***

ورغم أن الأزمات تحيط بالتعليم الأزهري بداية من طريقة التعليم والمناهج إلا أن تطويره يحتاج إلى إرادة سياسية لديها مشروع، وكان هذا واضحًا من تاريخ إنشاء الأزهر الذي لم يتطور أو يتغير إلا في وجود حاكم قوي فتم تغيير المذهب فيه بالأمر من صلاح الدين الأيوبي الذي كان لديه مشروع لمنع انتشار المذهب الشيعي، وأيضا حينما أصدر عبد الناصر قانون الأزهر كان يتم تطويره بإرادة سياسية، والآن لا توجد هذه الإرادة السياسية، فقط يوجد نظام يعيش على جبل من التوازنات ولا يستطيع أن يفقد نفوذه لدي المتشددين داخل الأزهر، خاصة مع مواجهة الإرهاب، يستجيب شكلا لضغوط الغرب الذي يريد تجديد الخطاب الديني وبالتالي التعليم الديني الذي يمثله الأزهر، وفي نفس الوقت لا يفعل ذلك، وهذا السبب الأكبر في تراجع فكرة تطوير التعليم الأزهري أما السبب الثاني فهو سيطرة المتشددين على الأزهر والذين يطلقون على قانون تطوير الأزهر، تخريب الأزهر، والقائمين على الأزهر الآن مجموعة من المحافظين يرون أنه شيء مقدس وتطويره لا يجوز، وهي عقليات تعلمت على كتب تم إنتاجها في القرن الثامن الهجري والتغيير بالنسبة لها كارثة.

 

لكن التعليم الأزهري حدث به بعض التطوير في عدة مراحل فتم إلغاء السنة الرابعة الثانوية وتغيير بعض المناهج…

 

**نعم حدث تطوير بسيط وإن كان لا يفي بالغرض ولا يصلح المنظومة، ولكن حتى هذا الإصلاح البسيط تم الارتداد عنه ففي عهد مبارك كثر الحديث عن مناهج الأزهر التي تدرس للطلاب منها أنه يجوز أكل لحم الكافر ويجوز الاستنجاء من التغوط بأوراق الإنجيل والتوراة، ويجوز نقل رأس الكافر من مكان لمكان، وقتل المدنيين إذا تمترس بهم الأعداء، فحاول الشيخ طنطاوي باعتباره رجل مبارك القوي أن يطور المناهج بإعداد كتاب “الوسيط في الفقه الميسر على المذاهب الأربعة” واستبدله بالكتب التي كانت تدرس وقتها وهي كتب أبي شجاعة والمستقنع وغيرها من الكتب التراثية، وألغى المذاهب، وفي ذهنه أننا في دولة مدنية يصدر فيها القانون من مجلس الشعب وليس المذاهب، ومن ناحية أخرى حاول أن يأخذ من الفقه ما يتوافق مع القانون والعصر وترك المهجور والشاذ، فمثلا أجاز الفقهاء تحديث سن لزواج الفتاة، فيكشف في كتابه عن أن الدولة لم تخطئ إذ حددت سن الزواج 18 سنة، وفي هامش الكتاب يذكر أن هناك آراء أخرى لفقهاء لم يحددوا سن للزواج، ولكنها أقوال مهجورة، وتم تدريس الكتاب في المعاهد الأزهرية طوال فترة وجود الشيخ طنطاوي على رأس مشيخة الأزهر، وحينما رحل مبارك تم إلغاء الكتاب وعادت المذاهب مرة أخرى ومعها الكتب التراثية، وإذا لم تكن الدولة لديها مشروع تطوير حقيقي وجذري لأزمة التعليم الأزهري سيظل الإصلاح بلا سند وسيتم الارتداد عن الإصلاحات التي تتم فيه.

 

نتائج التعليم الأزهري متدنية للغاية فقد وصلت نسبة النجاح في الثانوية الأزهرية إلى 28% عام 2015 وارتفعت إلى 41% العام قبل الماضي.. في رأيك ما السبب؟

 

**التعليم الأزهري لا يتمتع بالتنافس داخله فالطلاب الحاصلين على أي نتيجة سوف يدخلون المرحلة التي تليها بدون تنسيق، ويظل هذا موجود حتى في الجامعة، وبالمقارنة مع التعليم العام فلدينا 500 ألف طالب، والجامعات الأهلية لا تقبل أكثر من 100 ألف طالب، إذا هناك طالب من كل 5 سيدخل الجامعة هذا يجعل طلاب الثانوية العامة يذاكرون بجد ويدفع الأهالي عشرات الآلاف على الدروس الخصوصية لضمان مقعد في الجامعات الأهلية، لكن يحدث في الأزهر العكس فكل 5 طلاب يدخل 4 منهم إلى الجامعة مهما كان مجموعهم فتقل التنافسية التي تجعل الطالب لا يجتهد في الدراسة ويكفيه النجاح لدخول الجامعة، وبالتالي يقل جهد المدرسين في تعليم الطلاب لأنهم في النهاية سينتقلون بلا تنسيق من الإعدادية للثانوية ومن الثانوية إلى الجامعة هذا السبب الأكبر في تدني نسبة النجاح في التعليم الأزهري قبل الجامعي، كما أن هناك الكثير من أولياء الأمور حينما يجدون نجلهم ضعيف التحصيل فيقدمون له في الأزهر للهرب من مذبحة الثانوية العامة.

أيضًا في التعليم الأزهري يمكنك أن ترسب في 5 مواد وتدخل امتحانات الدور الثاني وتنجح وهذا يؤثر في دور المعلمين والطلاب وحتى الإدارات.

السبب الثاني في تدني نسبة النجاح هو كثرة المواد التي يدرسها طلاب التعليم الأزهري مقابل التعليم العام، فهناك مواد شرعية ومواد للغة العربية بخلاف حفظ القرآن والأحاديث بجانب مواد التعليم العام، وهذا جانب فني في مسألة التعليم الأزهري، فما يحصل عليه الطالب الأزهري هو عدد حصص أقل في جميع المواد أو وقت أقل في التدريس حتى يمكن إنهاء المناهج لعدد كبير من المواد وهذا يمثل ضغط على الطلاب من ناحية عدد المواد التي يدرسونها ومن ناحية أخرى صعوبة المناهج.

 

في العام الماضي فتح الأزهر باب التحويل إلى التعليم العام فتقدم أكثر من 60 ألف طالب في يوم واحد، وهناك توقعات بتحويل 150 ألف طالب العام الحالي من الأزهر فما هي أسباب التحويل إلى التعليم العام في رأيك؟ وهل هذا معناه نهاية التعليم الأزهري؟

 

** رغم عدم وجود تنافس في التعليم الأزهري والمعاهد نسبة تكدس الفصول فيها 30 تلميذًا وهي أقل من التعليم العام الذي يصل متوسطه 42 تلميذًا ومع هذه المحفزات إلا أن كثرة عدد المواد وصعوبة المناهج تدفع الأهالي لتحويل أبنائهم من التعليم الديني، وأنا لا أفهم لماذا الإصرار على دراسة مناهج من التراث مثل كتاب الفقه الحنفي “الاختيار لتعليل المختار” الذي ألفه عبد الله الموصلي المتوفى عام 1284 ميلاديًا والذي يدرس لطلاب الصف الأول الثانوي، فهذه كتب لم تؤلف ككتب دراسية وكثير منها لم يؤلف في مصر وكلها كتبت قبل القرن العشرين، لماذا يدرس الطلاب “تفسير النسفي” الذي كتبه عالم من “نسف” في أوزبكستان سنة 800 هجرية؟، هذه المناهج لا تناسب العصر الذي نحن فيه فلا يجوز أن ندرس في التعليم العام مثلا أن الأرض مسطحة والشمس تدور حولها، وهذه المؤلفات التراثية تؤثر على تحصيل الطلاب لأنها كتبت بلغة مهجورة ومصطلحات قديمة فلا يستوعبوها وتؤدي في النهاية إلى رسوبهم.

 

في رأيك هل يمكن تطوير التعليم الأزهري ؟ وكيف؟

 

** يمكن طبعًا إذا توفرت الإرادة السياسية لكن لابد ألا تكون بمعزل عن تطوير التعليم قبل الجامعي في مصر، فلابد من وجود نسق عام واحد لكل التلاميذ المصريين، قانون موحد للتعليم في مصر تلغي فكرة التعليم المتخصص فيتم إلغاء المدارس الخاصة والدولية والدينية بحيث يتم ضم الطلاب بكافة تنوعاتهم الدينية والجغرافية والاجتماعية في بوتقة واحدة هدفها إعلاء قيمة المواطنة، لأن التخصص التعليمي يجعل كل فئة في المجتمع المصري لها تعليمها الخاص ويعزل فئات المجتمع التي تعبر عن ثراءه وحيويته فتنتج جزر منعزلة لا يمكن لها إلا أن تتشاحن وتنتج التطرف وعدم قبول وفهم الآخر، ومعروف أن المجتمع المصري شديد الثراء والتنوع وكل مجموعة لها قيمها ورموزها ونصوصها التي تحترمها وتتعلم كل تلك القيم والمفاهيم في المنزل، فجيب أن يدرسوا سويًا نفس المواد وينضمون في أنشطة رياضية ليضمر الانتماء الأول ويطفو الانتماء للوطن على السطح، وبعد مرحلة معينة يختار الطلاب ضمن تنوع ثري بين مواد دينية ولغات أو العلوم أو الرياضيات وهكذا وتكون هذه المواد هي ما تؤهله إلى دخول كليات معينة من بينها كليات الأزهر، لكن التعليم الأزهري يدمر هذه الفكرة من الأساس، يأخذ مجموعة من التلاميذ ذات دين واحد ويتم صهرهم كمتدينين محافظين يدرسون مناهج من التراث لا تناسب الحضارة والمجتمع المصري فيصبحون عبئًا على فكرة المواطنة نفسها.

 

 

تصوير: محمد العريان

 

انظر أيضا:

في الصعيد.. أزهر مختلف