تعالت الأصوات المنددة بما عرضه التلفزيون العمومي من مشاهد أرشيفية لسنوات الدم والدمار التي مرت بها الجزائر في عقد التسعينيات من القرن الماضي في ذكرى تبني ميثاق السلم والمصالحة الوطنية المصادفة ليوم 29 سبتمبر واستنكرت برمجة تلك الصور التي تميزت بالعنف والبشاعة المفرطين. كما اتهم المنددون الحكومة بإخراج الصور البشعة لعشرية الإرهاب في توقيت دقيق يهدف لتخويف الشارع والقوى السياسية المعارضة من مغبة أية احتجاجات على سياستها في ظل أزمة مالية خانقة ناتجة عن انهيار مداخيل البلاد من عائدات النفط والغاز.

كانت نفس الأصوات قد نددت من قبل بالأحكام التي تضمنها ذات الميثاق وكذلك نصوصه التطبيقية التي أغلقت مجال الحديث عن تلك الأحداث المأساوية وجرمت أي تناول لها أو للمسؤولين عنها. و لنا أن نتساءل هنا كيف يمكن لمسار السلم والمصالحة الوطنية هذا في الجزائر أن يثير الانتقادات بهذه الصورة المتناقضة؟ إذ يعود ذلك للكم الهائل من التناقضات التي حاول المسار التوليف بينها: إقناع أكبر عدد من المسلحين بوضع السلاح دون العفو عن جرائم الدم والشرف والتفجير و طي ملف المفقودين دون الوصول إلى قبورهم. بمعنى آخر إنهاء العنف دون عقاب ودون قول الحقيقة للضحايا وللرأي العام.

المصالحة الوطنية وسياسة اللاعقاب    

تم تبني ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لوضع حد للحرب الأهلية التي عاشتها البلاد عقب توقيف المسار الانتخابي و تدخل الجيش في الحياة السياسية لمنع الإسلاميين من التحكم في مؤسسات الدولة بعد فوزهم في الدور الأول لأول انتخابات تشريعية تعددية لسنة 1991 وإيشاكهم على حصد الأغلبية الساحقة في الدور الثاني. إذ امتد العنف ليصل إلى مستويات مخيفة سنوات التسعينيات وتجاوز حتى الإشكالية الرئيسية لظهوره والمتمثلة في أزمة توقيف المسار الانتخابي بدليل عدم قدرة قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ التحكم في الجماعات المسلحة التي تعددت مسمياتها وأهدافها واتخذ عنفها منحى تصاعديا عرف أقصى تجلياته في عمليات التقتيل الجماعي للمدنيين العزل التي عرفتها عدة مناطق من البلاد (الرايس، بن طلحة، بني حامد، الرمكة…).

تمثل مبدأ ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي استُفتى في الشعب الجزائري يوم 29 سبتمبر 2005 في منح العفو لجميع العناصر التي تقبل بوضع السلاح والعودة لحضن المجتمع ما لم يثبت تورطها في جرائم التقتيل الجماعي أو الاغتصاب أو الاعتداءات بالمتفجرات في الأماكن العمومية، كما تضمن منعا مبرما لأية متابعة قضائية لعناصر الجيش وقوى الأمن المختلفة بسبب التجاوزات التي تكون قد اقترفتها أثناء معالجتها للأعمال الإرهابية. ورافقت السلطات العمومية الميثاق بإجراءات عديدة تهدف لإعادة إدماج المسلحين اجتماعيا واقتصاديا كما قامت بمنح تعويضات لضحايا ما اصطلح على تسميته بـــ “المأساة الوطنية” لجبر الأضرار المادية والنفسية التي تعرضوا لها، كما وضعت آلية خاصة لمعالجة معضلة المفقودين أفضت لتبني حل وسط يقضي بأن ” الدولة مسؤولة ولكنها غير مذنبة” في هذا الملف الشائك. كما راهنت الدولة على المخططات التنموية الممولة من الريع البترولي لإحداث إقلاع اقتصادي يسمح بمحو آثار المأساة ووضع البلاد على طريق التنمية الاقتصادية.

لكن ما يجدر قوله أنه لم يرافق إقرار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية أي نقاش جدي بين فعاليات المجتمع المعنية بالنزاع و لم ترافقه أية مصارحة بين الضحايا والجلادين كما لم يعبر أحد عن ندمه على الجرائم التي اقترفها كما لم يُبد أحد صفحه مباشرة للقاتل عن أية جريمة ارتكبت. ولم  يجر أي نقاش حول جذور ظاهرة العنف الإرهابي لا قبل تبني الميثاق ولا بعده ولا حتى بمناسبة الحملات الانتخابية التي سبقت الإستفتاءين على ميثاقي الوئام المدني والمصالحة الوطنية أين لم يكن بالإمكان لرافضي المشروع أو لمنتقديه الدعاية لخيارهم أو القيام بحملة إنتخابية للرد على حجج أصحاب مشروع المصالحة. كانت الأولوية إيقاف حمام الدم فورا ومهما كلف الأمر بغض النظر عن المنهجية المتبعة. بدا الأمر وكأنه إخراج لسيناريو تم التفاوض عليه مسبقا بين أركان النظام حيث صرح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في أحد خطاباته بأنه كان يتمنى المضي إلى أبعد من ذلك ولكن ” التوازنات” لم تسمح بذلك.

و هكذا شكل ميثاق السلم والمصالحة الوطنية “عقد نسيان” تم فرضه على المجتمع لطي صفحة الحرب الأهلية وحقن الدماء دون تحديد أدنى مسؤولية جنائية لأي كان. هو شبيه إلى حد بعيد بعقد النسيان الذي تعارفت عليه القوى السياسية الإسبانية لطي صفحة الحرب الأهلية المدمرة التي مرت بها البلاد مابين 1936-1939 وما تلاها من دكتاتورية عسكرية قادها الجنرال فرانسيسكو فرانكو، حيث تم التغاضي عن جميع الفضاعات التي ارتكبها الطرفان إبان هذه الفترة من أجل بناء مؤسسات ديمقراطية عصرية سمحت للبلاد بالانضمام للإتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي وإحداث نقلة ديمقراطية واقتصادية كبيرة.

و ماذا بعد؟

جاءت الثمار الأولى لمساري الوئام المدني والمصالحة الوطنية بتخلي حوالي ثلاثة آلاف من المتشددين عن العمل المسلح ونزولهم من الجبل وتراجع أعمال العنف بصورة محسوسة في جميع مناطق البلاد، كما نزع المسار الغطاء السياسي عن العمل المسلح بفصله نهائيا عن المظلومية التاريخية للإسلاميين والتي مفادها سلب حقهم المشروع في حكم البلاد عقب فوزهم في الانتخابات التشريعية التي قبلوا قواعدها وظروفها عن مضض. كما لم يعد الإرهاب يشكل خطرا وجوديا على الدولة الوطنية ومؤسساتها إذ أبعد ميثاق المصالحة الوطنية شبح سقوط النظام الذي خاض حرب استنزاف لم يكن مستعدا لها وواجه باستماتة منقطعة النظير أكبر تحد مرت به البلاد منذ الاستقلال وهو شبه أعزل من السلاح وفي عزلة دولية مطبقة. حتى الجماعات المسلحة التي رفضت اليد الممدودة من مؤسسات الدولة أصبحت معزولة وغير قادرة على توجيه أية ضربة تستحق الذكر لقوات الأمن باستثناء القليل من الأعمال الإرهابية المحدودة وذات البعد الاستعراضي والرمزي بعد مبايعتها اليائسة لشبكات الإرهاب الدولي (إختطاف السياح الأجانب، العمليات الانتحارية، الكمائن المعزولة ضد قوافل قوات الأمن…).

من الواضح كذلك أن مساري الوئام المدني والمصالحة الوطنية حصنا البلاد من التبعات الخطيرة للأحداث الأخيرة في الدول العربية في سياق ما سمي بالربيع العربي، إذ يمكن تخيل خطورة الوضع لو تمكن العدد الهائل من المسلحين الذين تخلوا عن العمل المسلح من الحصول على جزء ولو باليسير من الأسلحة التي تدفقت على دول الجوار الليبي بعد انهيار نظام العقيد معمر القذافــــي. يبدو ذلك جليا كذلك في حساسية الجزائريين المفرطة من أية مسار احتجاجي يمر عبر الشارع مخافة الانزلاق للفوضى والاضطراب وإعادة سيناريو المأساة الوطنية. كما يمكن تلمس ذلك في العدد القليل من الجزائريين الذين التحقوا بالدولة الإسلامية في العراق والشام مقارنة بدول عربية أخرى، مرد ذلك للتجربة المريرة للجزائريين مع العمل المسلح تحت عنوان الجهاد وما جره على البلاد من مآس وخسائر.

غير أن الإشكال الذي لم يتمكن الميثاق من معالجته هو ماذا بعد؟ بماذا كافأت السلطة المجتمع عن الصفح الجميل الذي منحه للإرهابيين؟ هل نتج عن مسار المصالحة الوطنية مؤسسات ديمقراطية قوية وقابلة للحياة من شأنها معالجة الصراع السياسي سلميا بين كافة مكونات المجتمع؟ تعتبر الإجابة عن هذا السؤال من التعقيد بمكان حيث تلى تبني الميثاق وتنفيذه في الميدان إعادة رسم الخارطة السياسية في البلاد عبر التحالف الرئاسي الذي التف حول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ضامنا له أغلبية ساحقة في جميع المؤسسات المنتخبة بمختلف مستوياتها ومقزما دور المعارضة السياسية التي خفت صوتها وانقسمت صفوفها وأصابها الشلل والوهن، مما جعل السجال السياسي ينحصر في كيفية تطبيق برنامج الرئيس مؤجلا كافة النقاشات السياسية والمجتمعية الجوهرية التي تواجه البلاد (الحريات الرئيسية، تنويع الإقتصاد، الشفافية الاقتصادية والمساواة بين الرجل والمرأة…) إلى أجل غير مسمى.

ومما زاد الوضع سوءا من ناحية الأداء السياسي الطفرة النفطية التي تلت حرب الخليج الثانية وما صاحبها من “بحبوحة مالية” عابرة  جعلت البلاد تنأى عن مقومات التسيير العقلاني للإقتصاد والمال العام أين تمحور الأداء السياسي والاقتصادي حول التحكم في آليات استقطاب الريع البترولي وإعادة توزيعه دون أية نظرة مستقبلية لبناء جهاز إنتاجي خارج قطاع المحروقات يجنب البلاد الهزات الخارجية لسوق النفط. وهو ما حصل مع الأزمة المالية الحالية التي تتخبط فيها البلاد منذ 2014 سنة انهيار أسعار المحروقات في السوق العالمية والذي أفقد البلاد ما يربو عن نصف مداخيلها من العملة الصعبة وصار يشكل خطرا على ديمومة الإنفاق العمومي والسياسة الاجتماعية للدولة.

وعلى صعيد آخر، فبالرغم من المنع التام بنص الميثاق لمن وصفهم بـــ”المسؤولين عن استغلال الدين المفضي للمأساة الوطنية” من العمل السياسي الشرعي، إلا أن التيارات السياسية التي توظف الانتماء والعاطفة الدينية للجزائريين وجدت مساحات واسعة للنشاط داخل الأحزاب السياسية المعتمدة وفي المجال الدعوي والاجتماعي مما جعلها تكسب الكثير من النقاط التي لم تتمكن جماعات العنف الإرهابي من كسبها بالبندقية والخنجر. وأكبر دليل على ذلك عودة الخطاب الديني الإقصائي والرافض للحداثة والتنوع الثقافي ولتمكين المرأة وتمكنه من تشكيل الوعي الثقافي لقطاعات واسعة من الشباب خاصة من الأجيال التي لم تعايش سنوات الإرهاب أو لا تملك عنها غير ذكريات باهتة ومجتزأة.

فمن الواضح أن الخطاب التوافقي التصالحي الذي صاحب مسار الوئام المدني والمصالحة الوطنية قد فت من عضد المجتمع المقاوم الذي صقلته سنوات الحرب على الإرهاب والتطرف وما لبث يفقد المناعة التي اكتسبها ضد الخطاب الديني المشبع بالإقصاء ورفض الآخر. حيث لا عجب إذا رأينا في بلد أحد الدعاة السلفيين ورئيس حزب سياسي ولو كان غير معتمد (عبد الرؤوف زيراري حمداش) يطالب بإهدار دم كاتب صحفي مرموق  (كمال داود) لمجرد آرائه ومعتقداته، ناهيك عن كمية الحقد والرفض التي واجهت أبناء الطائفة الإباضية العريقة أثناء الأحداث التي عرفتها ولاية غرداية في 2013-2014. هذه الشواهد وأخرى تحتم على السلطة والمجتمع التحلي بروح المسؤولية والعمل على بناء المواطنة الحقة ومواجهة التطرف بتحجيم الخطاب الإقصائي ومواجهته فكرة بفكرة وكلمة بكلمة وضمان الحريات الفردية والتمكين لها.