عندما أنجبت طفلتي الأولى، كان أكبر مخاوفي التعليم، جزء من تلك المخاوف يتعلق بالماديات، والجزء الأهم يتعلق بسؤال كبير ملخصه ما الذي ستتعلمه الطفلة؟ أريدها أن تتعلم في مكان يساعدها على الابداع، ويطور مهاراتها، أريد أن يكون حظها في التعليم أفضل من حظي..

وربما ليس جديدا القول إن البحث عن حضانة مناسبة لأطفالنا- أو مؤسسة تعليمية بشكل عام- رحلة شاقة تخوضها كل أسرة بعد قرار الإنجاب في مصر التي احتلت المرتبة 139 -المركز قبل الأخير- على مستوى جودة التعليم الأساسي، والمركز 111 في جودة التعليم العالي والتدريب، وذلك بحسب مؤشر جودة التعليم العالمي، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس لعام 2015-2016.

هنا نحاول التعرف على ما يمكننا تسميته ببساطة معاناة الطبقة المتوسطة في سبيل البحث عن تعليم جيد، وأيضا في حدود الإمكانات المادية للأسرة، أسئلتي ليست فردية، ولا تخصني وحدي، ولكنها تخص تقريبا، كل أسرة لديها طفل –أو أكثر- على وشك الدخول في العملية التعليمية.

***

في البداية عرّف كمال مغيث، الخبير بالمركز القومي للبحوث التربوية، مرحلة “رياض الأطفال” أو “KG” كما أصبح متداولا، بأنها مرحلة تعليمية تسبق المرحلة الابتدائية، دورها هو تأهيل انتقال الطفل من الحياة المنزلية إلى التربية المدرسية عن طريق تقديم انشطة تطور من نموهم العقلي وتوفر لهم حالة نفسية جيدة”.

ولكن مغيث استدرك قائلا: “لا مجال للحديث عن جودة التعليم المصري، فهو خارج نطاق التقارير الدولية بالأساس، لو هنتكلم عن النهوض بالتعليم وجودة التعليم، فلازم الاول الدولة ترجع الـ50 مليار اللي بيتسرقوا من ميزانية التعليم، لافتًا إلى أن الدستور نص على أن ميزانية التعليم قبل الجامعي 4% من اجمالي الناتج المحلي اي 130 مليار، وميزانية التعليم للعام الحالي هي 80 مليار فقط، توزع على حوالي 20 مليون طالب، أي 4000 جنيه سنويًا للطفل، هذه الميزانية لا تنتج تعليمًا”.

مشيرًا إلى أن التعليم تعرض إلى عملية تخريب ممنهجة والطالب المصري اصبح يعيش في ازمة لا سبيل للخروج منها إلا من خلال مشروع وطني يبدأ من زيادة ميزانية التعليم والاهتمام بالمعلم لأنه محور العملية التعليمية مشيرًا إلى أن المعلم يعد أيضًا العنصر الأساسي في انهيار العملية التعليمية ايضًا، فراتب المعلم في أوائل السبيعنات كان يعادل 10 الآف جنيه الأن، اما الآن فنجد المعلم مرتبه لا يتعدى 130 جنيه في ظل كل تلك الأزمات الاقتصادية.

ربما يبدو حديث دكتور مغيث نظريا، ولكنه يعطي إطارا جيدا للوضع المأساوي للتعليم في مصر، وسنحاول هنا أن نعطي للحديث النظري جسدا واقعيا عبر شهادات لأمهات وأسر يعانون في محنة اختيار حضانة مناسبة لأطفالهم

***

مي عامر،باحثة، مطلقة، وأم لطفل واحد “ضي”، يبلغ من العمر 4 سنوات. أخذت مي قرار الإنجاب بسهولة لأنها كانت تضع رؤية مختلفة للأمومة، بجانب التربية فهي تضم صداقة واكتشاف مواهب.

كان التعليم أكبر مخاوف مي، بالأساس لتشككها في القيم والمبادىء التي سيكتسبها صغيرها من المؤسسات التعليمة والثقافية، وهذا ما دفعها للإكتفاء بطفل واحد، مفسرة أن هذا القرار مرتبط بأمر واحد هو التعليم.. “حيث أن أقل حضانة آدمية تبدأ من 2000 جنيه مصري (220 دولار تقريبا)، وأقل مدرسة آدمية تبدأ من 12000 جنيه مصري(1300 دولار تقريبا)”.

“ضي” بدأ في الذهاب إلي الحضانة وهو عمره سبعة أشهر، وعن رحلة إختيار الحضانة، أخبرتنا مي أنها كانت تبحث عن مؤسسة تربوية أكثر من كونها تعليمية، واختارت حضانة كانت تعمل بها بالفعل: “كان أهم حاجة عندي النظافة واحترام اختلاف شخصيات الأطفال والأهتمام بمواهبهم”.

مصاريف حضانة ضي فاقت مرتب والدته: “كنت بعمل قردة عشان أكمل الفلوس، الحضانة مصاريفها 3000 جنيه، وأنا مرتبي كان 2500 جنيه فقط، الحل كان دايما في شغلانتين أو ثلاثة كي اكمل المبلغ، ومصاريف تعليم ضي أهم اولوياتي في الحياة”.

***

أمينة محمد  -اسم مستعار- لا تعمل الأن بسبب حملها الثاني الذي لم تخطط له، الابن الأكبر لأمنية يبلغ من العمر 6 سنوات، والصغيرة لم تكمل شهرها السادس بعد. انجبت أمينة طفلها الأول قبل الثورة بعام، وهنا ارتبط خوفها على مستقبل ابنها بالمجهول الذي ينتظر الجميع عقب الثورة :”مكنتش بفكر في تعليم بس، الموقف كان أكبر من كده، عيشة وحياة ومستقبل كامل”.

اضطرت أمينة للبحث عن حضانة كي ترفع جزء من الاعباء المادية عن زوجها وتحسن من ظروف معيشتهم.. ”محبتش أطلب مساعدة مالية من أهلي .. طالما قولنا يا جواز وخلفنا عيال، يبقى نتعب عشانهم ونتحمل مسؤلية قرارنا، كمان ابني بقى عمره أربع ولم يكن هناك مفر من خطوة الحضانة، لأني خفت ان يحصله توحد، كنت بدور بالأساس على مكان يكون نضيف، وبيهتموا بنفسية الطفل من خلال الأنشطة الترفيهية، وبالفعل وجدت حضانة مناسبة إلى حد ما وكنّا بندفع فيها 800 جنيه، بتوصل لألف بمصاريف المواصلات (50 دولار تقريبا) وساعات أزيد، دا كان نصف مرتبي بالظبط”.

فيما بعد بدأت أمينة في البحث عن مدرسة لابنها، ولكن تزامن رحلة البحث عن المدرسة مع ولادتها الثانية فاضطرت لترك عملها، مما دفع زوجها إلى العمل لفترتين: “بقى يخرج 9 الصبح ويرجع 12 بليل عشان 600 جنيه زيادة”.

“حاولت في البداية البحث عن حضانة تابعة لمكاتب وزارة التضامن الاجتماعي، كنت قد سمعت عنها، مصاريفها 70 جنيه، لكن من ساعة ما دخلت من باب الحضانة وأنا سامعة صريخ الأطفال ولا أحد يهتم، بالإضافة إلى إن المساعدة حاولت طلب بقشيش كي تهتم أكثر بابنتي”.

هكذا كانت بداية رحلة البحث عن حضانة لطفلتي الأولى وعمرها ثلاثة اشهر، بالطبع خافت على ترك ابنتها في تلك الحضانة، وبدأت البحث عن حضانة آخرى، كانت تبحث عن مكان يهتم بالنظافة ويعامل الرضع بشكل جيد، حيث أن الطفل في أول عام –كما ترى- لا يحتاج إلا لمكان نظيف يهتم لأكله وشربه، وأنشطه تناسب عمره.. “وضعت ميزانية تضم نصف راتبي، وبالفعل وجدت واحدة، كانت جيدة بالفعل.  بدأت في العمل على تحسين مستوى  دخلي عن طريق العمل أكثر، وبدأت أعتمد على راتبي الأساسي في سد احتياجات الحضانة، وعندما بلغت ابنتي عامها الثاني، بدأت في البحث عن حضانة  يمكنها تعليم ابنتي اللغة الفرنسية، ولكن الاسعار كانت صادمة، حيث تبدأ من 1500 حتى 3000 الآف جنيه. فلم يكن هناك بديل سوى الاستغناء عن بعض الرفاهيات  والبحث عن منافذ عمل آخرى لتحسين الدخل وتوفير مصاريف الحضانة التي تصل الآن لـ1700جنيه”.
****

مصاريف الحضانة باتت ميزانية ثقيلة تدفع الأسر والأهالي إلى الاستغناء عن أشياء كثيرة سواء كانت رفاهيات او أساسيات يمكن تأجيلها.

تؤكد أمينة على أن بند الترفيه أصبح مرة في الشهر وتكمل: “مش لازم نأكل كل يوم لحمة وفراخ، اللي عرفت اتعلمه بما إني قاعدة في البيت، عشان بنتي الصغيرة هو إني اتعلمت أعمل ثلاث وجبات لنا في اليوم بتكلفة 60 جنيه فقط، وإني أزود مهاراتي من خلال التعلم عبر الانترنت، عشان لما بنتي تتم سنة، أقدر أسيبها في حضانة وانزل اشتغل”

أما مي عامرفتقول: “أنا مبقتش استغني عن رفاهيات لأنها مبقتش موجودة أصلا، أنا بقيت بستغنى كمان عن الأساسيات، زى إني مثلا ممكن أكون عيانة وآجل كشف الدكتور، كل دخلي رايح في مكان واحد هو التعليم”.

****

المدراس  أصبحت تشترط نجاح الأطفال في مرحلة الحضانة في المرور باختبارات معينة كيي تقرر إذا ما كانوا مناسبين للإلتحاق بالمدرسة أم لا، تتكلف المقابلة الخاصة بالطفل ما لا تقل عن 1000 جنيه (تقريبا 65 دولار) ولا يتم استردادها.

تقول مي: “عندما أتى موعد التقديم لابنها بالحضانة الخاصة بالمدرسة، في البداية اضطرت إلى تقديم اوراق ابني في ثمانية مدارس، ودفعت 8500 جنيه رسوم اختبارات، مش فاهمة يعني ايه مقابلة مع الطفل لا تستغرق عشر دقايق، ندفع ليها 1000 جنيه، ولو الطفل اتقبل مش هتتخصم من مصاريف المدرسة!”.

من ضمن الـ 8 مدارس التي تقدمت إليها ضي، قبلته 5 ورفضته 3، وكانت أسباب الرفض في واحدة منهم، أن الطفل ظل صامتًا ولم يجاوب على الاسئلة. وإلتحق الطفل بالفعل بمدرسة فرنسية، تدفع لها مي 20 ألف جنيه مصاريف سنوية”
***

سالي أسامة، حاصلة على دبلوم الإرشاد الأسري والتربوي ومؤسسة ومديرة حضانة، ترى أن خطوة المقابلة التي يتعرض لها الطفل،هامة ولكن هناك خطأ كبير في تنفيذها.

تقول سالي:”إحنا كنا في الكلية بندرس ازاي نعمل مقابلة للأطفال وليه، وهنا السبب والشكل متخلفين تماما.  الهدف من المقابلة هو إني أعرف إذا كان الطفل المتقدم سليم جسديًا وعقليًا أما لا، كي يتم توجيه اسرته إذا كان يعاني من أي شىء،  ووصفت ما يحدث من قبل المدارس في اختبارات قبول الحضانة بالجنون، لأنه مطلوب من الطفل في سن صغير،  إن لا يخاف من الأغراب، وأن يكون متحدثا لبقا، وحافظا للأرقام، والأحرف والألوان وأسماء الحيوانات بالعربية، والإنجليزية أو الفرنسية، هذا ليس منطقيًا بالطبع، وتكمل عمليًا لا يجوز للطفل أن يمسك قلم إلا بعد 6 سنوات، وأرجعت سالي إلى ان هوس الاهالي بالتفوق والتباهي به ساعد مثل هذه المدارس على المبالغة في اختيارها للأطفال المميزين كي لا يبذلوا –كمدرسة- مجهودا كبيرا”.

***

يري دكتور مغيث أن ما يتعرض له الأطفال خلال تلك الاختبارات هو أمر مدمر للطفل، مؤكدًا أن تلك الاختبارات غير مجدية تربويًا بالأساس: “المدارس تحولت إلى مؤسسات تجارية، باختصار اللي بيحصل ان الحضانة بيكون قوتها العددية 200 طفل ومتقدم لها 400 طفل مثلا أو أكتر، فالمدرسة بدلًا من ان تضع معايير واضحة للإلتحاق بها بحسب السن على سبيل المثال، فهي تقرر ابتزاز الأسرة عن طريق اختبار قبول”.

مشيرًا إلى أن الجهات المختصة بالرقابة لا يعينها ولا تتدخل لحماية أولياء الأمور: “هيراقبوا ليه، المعنيين بالأمر هم بالفعل أصحاب مدارس خاصة ويشاركون فيما يحدث”.

***

وأنا أستعد الأن مع ابنتي التي قاربت على الثلاثة أعوام، على تلك المقابلات، باقى لنا من عامين، أشعر بالرعب تجاه تلك التجربة، نحن نتحدث الآن عن مبالغ طائلة تدفع كي نعلم أطفالنا تعليم جيد، ولا أعلم كيف ستكون الأسعار خلال عامين، ولا أعلم أيضا ما الذي يمكنني فعله للهروب أو التخفيف من ثقل تجربة المقابلة.

 

 

تصوير: أسماء جمال

 

أنظر أيضا:

الحضانة ترفيه وتعليم..وإجبار