“في تلك اللحظة، سيطر علي الذهول، تسمرت في مكاني، وشعرت بثقل غير طبيعي في قدمي، جعلني عاجزا عن السير أو الحركة، لم أعرف إن كان ذلك أثر المفاجأة السعيدة الغير متوقعة، أو بسبب التعود  الطويل على المساحات الصغيرة للحركة داخل السجن والتي لا تزيد عن 4 في 10 أمتار على الأكثر”.

هكذا يتذكر المصور محمد حسني لحظات الحرية الأولى،  بعد حصوله مع 18 معتقل، على عفو رئاسي مفاجيء بعد عام كامل قضاه في السجن فى القضية المعروفة إعلاميا باسم “أحداث مجلس الشورى”.

عند إطلاق سراحه من سجن طره جنوب القاهرة، لم يجد حسني أمامه سوى صديقة واحدة كانت قد علمت بالصدفة باحتمالية خروجه في ذلك الوقت، وهي الناشطة رنوة يوسف، والتي تعجبت من الحالة التي أصابته، ولم  تجد أمامها سوى أن تقوم بسحبه من يده وجره بالقوة ليتحرك إلى الخارج، حسب روايته.

***

كانت القضية بدأت في نوفمبر 2013، بوقفة سلمية أمام مجلس الشورى أثناء انعقاد لجنة الخمسين لكتابة الدستور، للمطالبة برفض المادة التي تسمح بمحاكمة المدنيين عسكرياً، انتهت بفضها بالقوة، والقبض على المشاركين بها، والذين حصلوا فيما بعد على حكم  قضائي غيابي بالسجن لمدة 15 عاما.

خفف الحكم في الاستئناف إلى 3 سنوات لبعض المتهمين ومنهم حسني، ثم جاء قرار العفو للبعض، بعد عام واحد على نحو غير متوقع، وكما يروي فتحت الزنزانة في موعد غير معتاد لخروج المساجين، وبمجرد إعلان إدارة السجن اسماء المفرج عنهم، كان عليهم أن يخرجوا إلى الشارع بدون أي إجراءات إضافية أو تعقيدات روتينية معتادة.

 

عبور الطريق

لم يكن يوم خروجه من السجن هو آخر عهده مع ذلك “الرهاب” غير المفهوم للمساحات الواسعة للحركة، فيحكي عن المرة الأولى لخروجه مع طفله الصغير مهند، للتنزه  في العيد بعد إطلاق سراحه مباشرة،  حيث وجد نفسه عاجزا عن عبور الطريق، كإنه نسى مهارة المرور والحركة وسط السيارات.

دعاه الأمر للانتظار لعدة دقائق حتى عثر على رفيق يعبر به الشارع المزدحم في منطقة شبرا، وهو ما تكرر معه بعد ذلك عدة مرات،  قبل أن يقرر تعلم عبور الشارع لمفرده وكأنها مهارة جديدة عليه أن يكتسبها.

بالتدريج عادت الأمور لطبيعتها، فيما يخص التعود على الشوارع، إلا أن تفاصيل آخرى صغيرة  ظلت ملتصقة به دون أن يشعر لعده أشهر، مثل نسيانه لاسماء وشخصيات أغلب الأصدقاء والمعارف باستثناء مجموعة قليلة جدا من الدوائر المقربة، ، كذلك صعوبة النوم وشعوره بعدم الراحة على سريره، وهو ما جعله يقوم بتغييره أكثر من مرة ظنا أن المشكلة ربما تعود لنوع التنجيد مثلا .

ولم يكتشف الأمر إلا عندما استبدل النوم على سرير منزله، بالطريقة التي اعتادها خلال العام الذي قضاه في السجن، وهي “الفرشة” المكونة من عدة بطاطين تلف  بطريقة معينة فوق بعضها وتوضع على الأرض، ووجدها الطريقة الوحيدة المريحة لجسده، إلا أن ادراكه لسبب المشكلة، جعله يقوم بالتبديل بين النوم على الأرض والسرير، حتى يتغلب على تلك المشكلة ويعود لحياته الطبيعية.

أرجع حسني صعوبة تأقلمه على الحياة العادية، رغم قصر فترة سجنه، إلى أنه كان غارقا بشكل كامل في تفاصيل حياة السجن، ربما محاولة منه، حسب قوله، لتجنب التفكير العاطفي في حالته كسجين، فاستبدل تلك الحالة، بمحاولة التكيف مع الوضع الجديد وتحسين الأوضاع قدر المستطاع، وهو ما تطلب منه الاندماج الكامل داخل حياة السجن والتي ينظر لها كعالم موازي بقواعده وعاداته وناسه.

 

رغبة في الانتحار

لم يخفِ حسني والذي يقترب من عامه الأربعين، مروره بظروف نفسية قاسية بعد خروجه من محنته، دفعته للتفكير جديا في الانتحار، كوسيلة للتخلص من معاناته النفسية الشديدة وعجزه عن مواصلة الحياة.

ويشير أن الأمر الوحيد الذي دعاه للعدول عن الفكرة، هو تفكيره في مصير ابناءه من بعده، وهو ما جعله يلجأ إلى طبيب نفسي، صديق له يعمل في الخارج منذ سنوات، تواصل معه عبر الإنترنت، ليستشيره ويحصل على المساعده اللازمة  ليتجاوز تلك الفترة.

وكانت حالة من الاكتئاب قد سيطرت عليه، لعدة أسباب من أهمها حسب رؤيته، التطور السريع للأحداث السياسية والاقتصادية في مصر، والذي لم يعلم عنه الكثير بسبب التعتيم عليه في السجن، ليصدم بعد خروجه مثلا بتحول أغلب أصدقائه ومعارفه إلى متهمين على ذمة قضايا سياسية، ويجد نفسه محاصرا بأجواء السجن وهو خارجه.

ظهرت لديه أيضا رغبة شديدة في العزلة، وهو ما فسرها لنا بمحاولة تعويض الفترة التي انتهكت بها خصوصيته بشكل ممنهج في السجن، في كل تفاصيل الحياة، من تبديل المسجون لثيابه على الملأ، لتفتيش كل أغراضه، لطابور المساجين أمام دورة المياه.

بجوار هوايته كمصور حر، يمتلك حسني شركة للبرمجيات، عاد لإدارتها بعد خروجه، وهو ما شكل ضغطا نفسيا جديدا، لشعوره بصعوبة تعامله مع الناس وخاصة العملاء، بسبب سرعة عصبيته، وعدم قدرته على تحمل النقاشات غير المجدية، وشعوره بالذنب كذلك لقلة صبره مع العاملين معه، مع صعوبة الظروف الاقتصادية والتي أثرت بدورها على عمله وعلى قدرته على تعويض المحيطين به على تحملهم لفترة غيابه.

أما عن نصيحة طبيبه النفسي والتي يؤكد حسني على مفعولها الطيب، فهي تجنب الضغوط، مثل البعد عن التجمعات الغير مريحة له، وفي الوقت نفسه ممارسة ما يحب بمفرده والاستمتاع به لأقصى درجة، وهو ما دعاه للقيام بعمل رحلات للاستكشاف والتصوير في عدة مناطق داخل مصر وخارجها، مثل واحة سيوة غرب مصر، ومدينة دهب على البحر الأحمر، وأيضا لبنان، وقام بتخصيص وقت أكبر للاستمتاع بصحبة ابنائه.

 

لوقا المنحوس

لم تفلح سنوات السجن في هزيمة ابتسامته الواثقة المشرقة، وروحه المرحة، بالرغم من اللقب الذي أطلقه عليه أصدقاؤه  بعد سجنه لمدة 3سنوات و3 أشهر، انتهت في شهر مارس الماضي، وقضائه العقوبة بشكل متصل على خلفية اتهامه في قضيتين سياسيتين.

حكم علي الناشط السياسي لؤي القهوجي، مع عدد من  النشطاء الآخرين في يناير 2014  بالحبس عامين وبغرامة 50 ألف جنيهًا، بتهمة خرق قانون التظاهر، أما القضية الثانية والتي تحركت ضده وهو في محبسه، فهي تعود إلى فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، في فترة الوقفات الاحتجاجية الشعبية ضد حكم الاسلاميين، مما جعل الحكم عليه مع عدد من النشطاء، بعام و3 أشهر، مفاجئا وصادما بعض الشيء وخاصة بعد تغير نظام الحكم في مصر.

“لوقا المنحوس” وهو اللقب الطريف الذي منحه له بعض المقربين، يقول أنه لا يرى في سجنه سوء حظ، فهو لم يأتي بالتأكيد على سبيل الصدفة، بل ثمنا لمواقف اقتنع بها، حتى وإن كان يراها تجربة سيئة لا يرغب في تكرارها بإراداته أبدا.

 

زنزانة الاسلاميين

من المفارقات غير السعيدة بالنسبة للقهوجي في تجربة السجن، والتي قضاها في سجن برج العرب بمدينة الإسكندرية،  كانت ايداعه في زنزانة الاسلاميين، وهي تضم  الإخوان المسلمين والتكفيريين وغيرهم من ابناء تيارات الإسلام السياسي،  فكانت الشهور الأولى بمثابة تكدير مضاعف له، ووجد بها صعوبة في التأقلم والتكيف مع زملاء السجن.

كان لقبه في زنزانته “الشيوعي”، وهو ما يقول أن سببه لم يكن سياسيا، ولكن بسبب انهماكه الدائم في القراءة، إضافة إلى اختلاف عاداته اليومية عن حياتهم، والتي كانت ترتب كافة تفاصيلها من المسئولين عنهم بشكل محدد.

إلا أن عادة القراءة تحولت بعد فترة إلى وسيلة تواصل جيدة معهم، بعد أن صنع مكتبته الخاصة في السجن، ووضع بها نظاما للاستعارة لمن يرغب، وبدأ يتحول مع الوقت من طرف معادي، إلى شخص  يمثل الرأي الآخر أو “الخبرة المستقلة”.

وعلى عكس ما عبر عنه المصور محمد حسني في تعاطيه مع فكرة السجن كأمر واقع وتوحده مع تفاصيله وحياته، اختار الناشط السكندري، أن يجعل وجوده في السجن مجرد تواجد فيريقي فقط، وأن يشغل عقله دوما بخارجه، واثقا من كونه وضعا مؤقتا، رغم معاندة الظروف له واستمراره لفترة أطول من المتوقع.

كانت الزيارات والخطابات والسؤال عن تفاصيل وأخبار كل الأصدقاء ومحاولة ابداء الرأي فيما يخصهم ومساعدتهم في حل مشاكلهم، هي طرق تواصله الأساسية مع العالم الخارجي، والتي تجعله يشعر بتأثيره ووجوده معهم.

يرى أن السجن ساعده  في تقوية الارتباط الوجداني مع الأشخاص المقربين، بل وتثبيت دوائره الاجتماعية من أصدقاء وأقارب، وهو ما جعل خروجه لحظة انطلاق وسعادة حقيقية، بملاقاة الأحبة بعد غياب، وأيضا التحرر مما اسماه “الكبت” والذي سببته له أجواء السجن مع ابناء التيار الإسلامي، فكانت لحظة إخلاء سبيله بعد انتهاء مدته، حالة استثنائية من البهجة والانطلاق.

ببدلة السجن الزرقاء، وبدون ترتيب أو تخطيط، استعار دراجة صديق له، ممن كانوا في استقباله، ليكون أول ما يفعله بعد خروجه في  ساعات الفجر الأولى من الجمعة 10 مارس الماضي، هو الانطلاق على شاطيء البحر في الاسكندرية، ثم ذهب إلى حفلة استقبال رتبها له اصدقاؤه، ليرقص ويستمتع بوقته حتى اليوم التالي.

يعتبر القهوجي أن أول شهر من خروجه كانت أفضل فترة قضاها، بسبب تعويضه المكثف لسنوات الحرمان من الحركة بمقابلة الأصدقاء والتنزه في الشوارع وزيارة أماكنه المفضلة، إلا أن الآثار النفسية لتجربته بدأت في وقت لاحق.

 

البحث عن دور فعال

كان القهوجي يقترب من السابعة والعشرين من العمر عند دخوله السجن لأول مرة، والذي خرج منه قبل عيد ميلاده الثلاثين بحوالي شهرين، وهو ما يعتقد بأنه السبب في تولد بعض المشاعر السلبية لديه تجاه نفسه والعالم، وخاصة مع ضيق المجال العام في مصر بعكس الحال قبل دخوله السجن، إضافة إلى صعوبة الحياة على الشباب بشكل عام.

ويوضح أن السنوات الضائعة خلف القضبان، لم تكن مؤلمة في ذاتها، بقدر ما نبهته إلى السنوات السابقة والتي لم يضع فيها أقدامه على أرض ثابتة، وهي الفترة منذ بداية العشرينات من العمر وبعد تخرجه في كلية الآداب قسم الجغرافيا بجامعة الإسكندرية.

يصف ما بدأ يعاني منه بعد أشهر من حصوله على حريته وخروجه للحياة الجديدة،  بالتحديد في الشعور الحاد بالتشوش وعدم القدرة على التركيز، إضافة إلى الإحساس بعدم الجدوي، خاصة في الظروف الحالية التي تمر بها البلاد، وما تحتمه من صعوبة الحصول على دور جديد  ومؤثر في الحياة يمنحها القيمة.

وبينما لا يستبعد  فكرة الحصول على استشارة نفسية أو دعم من مختصين إن تطلب الأمر، يؤكد على يقينه بأن المشكلة ستنتهي  من تلقاء نفسها بمجرد أن يجد وسيلة لوضع أقدامه على أول طريقه المهني وإثبات وجوده، وهو ما يسعى إليه في الفترة القادمة، ويعمل عليه جاهدا.

 

الصورة للؤي القهوجي لحظة خروجه من السجن

تصوير: رنوة يوسف