تضطر الشابة التونسية منى إلى قطع 60 كلم من تونس العاصمة إلى بنزرت شمال البلاد لزيارة شقيقها السجين في سجن الناظور، حاملة معها قفة مأكولات أغلبها يتم رفضها من إدارة السجن لأن عديد الأكلات مصنفة محظورة.

يقضي شقيقها عقوبة سجنية بـ13 عام بعد أن حكم في قضية مخدرات، قضى منها 8 أعوام ومع ذلك تمكنت منى ووالدتها المسنة من جلب القفة لشقيقها طيلة هذه السنوات بمعدل مرة في الأسبوع وأحيانا مرتين بحسب الظروف.

وكغيرها من العائلات التي تواجه نفس هذه الظروف تعتبر عائلة منى إيصال قفة ابنها داخل السجن مملوءة بالأغذية والملابس النظيفة مسألة ضرورية ولا نقاش فيها للتخفيف من هموم ابنها ومواساته ورعايته بفترة محكوميته.

معاناة مستمرة

وتبلغ كلفة قفة السجين في تونس نحو 25 دولارا وقد ترتفع التكاليف حسب الرفاه الاجتماعي للأسرة ويحق لكل أسرة حمل القفة 3 مرات في الأسبوع بحسب جدول تضبطه الإدارة السجنية، ولكن نادرا ما يزور الأهل سجناءهم بهذه الوتيرة.

وتقول منى لـ”مراسلون” إنها غالبا ما تتعرض إلى معاناة كبيرة في إيصال القفة إلى أخيها بسبب طول فترة الانتظار في طوابير طويلة تحت الشمس الحارقة أو المطر.

وتضيف بأن المعاناة لا تنحصر فقط في حدود ذلك وإنما تتجاوزها إلى مرحلة تفتيش القفة تفتيشا دقيقا من قبل أعوان السجون الذين غالبا ما يمنعون إدخال مأكولات وخضر وغلال بحجة أنها موضوعة على قائمة الممنوعات.

رمزية روحية

وحسب بعض الخبراء تعود تاريخيا تقاليد جلب قفة السجين إلى مرحلة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والذي طلب من أهالي السجناء جلب الطعام لأبنائهم لأن إمكانيات الدولة بعيد الاستقلال لم تكن تسمح للدولة بإطعام السجناء.

ولكن حتى رغم تحسن ظروف الدولة وحرصها على إعداد الطعام للسجناء بنفسها تفاديا لإدخال أي ممنوعات داخل السجون بقي هذا الإجراء معمولا به إلى اليوم وظلت قفة السجين وسيلة تخفف معاناة المساجين وتعزز دور الدولة.

ويقول المؤرخ التونسي عبد اللطيف الحناشي، والذي سبق وأن أعد دراسة حول السجون التونسية إلى أن تونس من البلدان القليلة التي تتواجد بها قفة للسجين، “فهذا الإجراء غير معمول بها في اغلب البلدان الأوروبية وحتى العربية”.

ويبين الحناشي لمراسلون أن أغلب الدراسات لم تتطرق إلى “القفة” كجزئية داخل السجون واهتمت فحسب بمسائل أخرى روتينية بالاكتظاظ وظروف الإقامة والتعذيب حتى أنه بات من النادر جدا العثور على دراسات في هذا الموضوع.

تتمتع قفة السجين برمزية روحانية باعتبارها وسيلة تحفظ تواصل السجين مع عالمه الخارجي وتخفف من قسوة عقوبة السجن عليه والمتمثلة في الحرمان من التواصل مع العالم الخارجي “مما يجعل المساجين يتشوقون للقفة”.

إجراءات متشددة

لكن ورغم ربط صلات العائلة بابنها السجين من خلال السماح لها بتمرير “القفة” داخل السجن، فإن الإجراءات الإدارية المشددة داخل السجون وطول فترات انتظار العائلات قبل تفتيش القفة وتمريرها إلى السجين ظلت “عبئا مريرا”.

إذ تضطر كثير من العائلات خاصة تلك التي تجهل تراتيب السجون ونظامها على إرجاع القفة بأكملها أو حذف العديد من المأكولات والأدباش التي تعتبر ممنوعة من قبل إدارة السجون خشية من تمرير مواد مخدرة أو آلات حادة خطيرة.

وبحسب المؤرخ التونسي عبد اللطيف الحناشي بدأ تشديد الرقابة على القفة بعد تسجيل عدة تجاوزات من قبل بعض أهالي السجناء أنفسهم بواسطة إدخال مواد مخدرة كالقنب الهندي أو هواتف جوالة أو بطاقات شحن أو حتى مواد حادة.

قنبلة موقوتة

ويقول لمراسلون “قد تتحول قفة السجين في بعض الأحيان إلى قنبلة موقوتة بسبب ما قد تحتويه من مواد ممنوعة يتم إدخالها بطريقة محكمة داخل القفة” حتى تتخطى أنظار أعوان السجون الذين يراقبون يوميا آلاف القفاف.

وتبدأ قائمة الممنوعات في القفة بالأدوية والملابس حيث يمنع جلب الأحزمة والقبعات والأواني المعدنية والحديدية حتى لا يساء استخدامها داخل السجن وتتحول إلى أسلحة بيضاء تستعمل في الخصومات بين السجناء.

وتمنع كذلك مواد التنظيف بمختلف أنواعها وقد سبق أن تم ضبط مخدرات في قوارير الشامبو أو وسط منتجات التنظيف ولذلك تعمل أغلب الإدارات السجنية على توفير مواد التنظيف داخل فضاءات السجن لمنع تسريب أي مواد خطرة.

وترجع ألفة العياري الكاتبة العامة لنقابة السجون والإصلاح لمراسلون أسباب منع إدخال بعض المأكولات والملابس إلى محاولات إدخال ممنوعات داخل القفة كالكوكايين والقنب الهندي وحتى العنب الذي يستغله البعض لصناعة الخمر.

وتقول لمراسلون إنه عثر على مخدر القنب الهندي حتى في خضر “الجلبانة” حيث يتم تشكيله بطريقة تشبه حبات الجلبانة ثم يوضع في المرق وهو ما دفع إدارة السجون إلى منعها.

خدع وحيل

وقد ضبطت عديد الحيل لتهريب حبوب الهلوسة ومزجها مع مكونات الطواجن، إذ تؤكد ألفة العياري أن الأمر وصل بالبعض إلى استغلال عظم اللحوم الحمراء وإخراج ما بداخلها وحشوه بالممنوعات الأمر الذي أدى إلى منعه.

وهذه التجاوزات دفعت إدارة السجون إلى وضع شروط كأن يكون اللحم في شكل شرائح لتسهل مراقبته، وأن يقطع الدجاج المعد في الفرن إلى عدة أجزاء وإلى إعداد السلطة مسبقا فلا يسمح للسجين بإعدادها بنفسه أو تقطيع الخضر.

وتوضح العياري بأنه يسمح لبعض السجناء الذين يقضون أحكام مطولة ببعض الاستثناءات وهامش أكثر من الحرية إذ يمكن للسجين إعداد سلطة أو طبخ أكلة ما ويكون ذلك تحت المراقبة وبحسب اجتهاد مدير السجن، وفق قولها.

وبسبب الممنوعات المحظورة داخل السجون والتي تم جلبها بشكل سري في قفة السجين، تم سابقا إيقاف عدد من أفراد عائلات مساجين حاولوا التحيل على إدارة السجون لتمرير مواد ممنوعة داخل الطعام والملابس إلى ذويهم.

تضييقات وتشكيات

في المقابل تتهم بعض العائلات وبعض النشطاء غدارة السجون بتعمد التضييق على قفة السجين إمعانا في إذلال العائلات وذويهم داخل السجون رغم أن ما يجلبونه معهم داخل القفاف لا يحوي على أية ممنوعات، بحسب قولهم.

ويؤكد حسين بوشيبة السجين السياسي السابق ورئيس جمعية الكرامة للسجين السياسي أن جمعيته تتقى الكثير من التشكيات بسبب تجاوزات أعوان إدارة السجون في حق عائلات يأتون من مسافات بعيدة لتسليم القفة لأبنائها.

ويقول لمراسلون “المضايقات تبدأ من لحظة انتظار العائلة التي تحمل القفة خارج السجن تحت أشعة الشمس أو سقوط المطر ثم تستمر المعاناة عند تفتيش القفة حيث تبعثر أغلب محتوياتها فتصل إلى السجين في حالة لا يرثى لها”.

وتؤكد بلقيس المشري عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجود موانع كثيرة في إدخال القفاف إلى المساجين، مقرة بوجود معاناة كبيرة خصوصا لدى العائلات التي يتعرض أحد أفرداها إلى عقوبة سجنية طويلة.

وتؤكد المشري أن ممثلين عن المجتمع المدني قاموا بزيارات إلى السجون التونسية وعاينوا طريقة إدخال القفاف إلى المساجين ووقفوا على الأكلات التي تستثني دخولها إدارة السجون مثل أكلة “الطاجين” والموز والطماطم وغيرها.

لكن السؤال المطروح اليوم حسب قولها هو هل أن القانون يطبق على الجميع في مسألة القفة من حيث التفتيش والمراقبة والمنع؟ وهل يتم التعامل مع السجناء بنفس الكيفية أم أن الاستثناءات؟ أم أن هناك تمييزا بين المساجين؟”.