عند الحديث عن الكوادر الطبية التي هاجرت وعادت إلى ليبيا، ستكون وزيرة الصحة السابقة الدكتورة فاطمة الحمروش في مقدمة تلك الكوادر، خاصة أنها تبوأت منصباً رفيعاً وعند انتهاء مهمتها عادت لتهاجر مجدداً.

مراسلون التقى الحمروش فكان هذا الحوار

س- بعد إكمال دراستك للطب في ليبيا، عملتِ في الكادر الطبي ثم هاجرتِ عام 1996، ما الأسباب التي دفعتك لذلك في ذلك الوقت؟

ج- أنا أكملت دراسة طب العيون مطلع ثمانينات القرن الماضي وعمري 24 عاماً، وعملت بعدها مباشرة في ليبيا مدة 12 عاماً، كان الفريق الطبي في ذلك الوقت محلياً وأجنبياً ويعمل بمهنية تامة.

في مطلع التسعينات بدأ الفساد ينتشر في وزارة الصحة، وأصبح بعض الأطباء يهتمون بالعمل في العيادات الخاصة، ويهملون المستشفيات والعيادات العامة، بل تم تخريب عدد كبير من الأجهزة الطبية في العيادات العامة بشكل متعمد من قبل بعضهم، وبدأ استهداف أي طبيب ناجح من قبل منافسيه، ولأني امرأة فمواجهتهم أمر صعب بالنسبة لي وهذا ينطبق على كل النساء، حتى في الدول الأوروبية تحتاج المرأة جهداً أكثر من الرجل لإثبات ذاتها في المقدمة، وإضافة لذلك كانت لي أسباب شخصية لاختلافي مع النظام، فوالدي كان في الجيش الملكي وسجن ظلماً أربع سنوات، وكان للممارسات القمعية والإعدامات العلنية في نهاية السبعينات دور كبير دفعني للهجرة كذلك.

السبب الرئيس لهجرتي هو انتشار الفساد الذي لم أستطع مقاومته، وجاءتني عام 1996 مع زوجي فرصة للدراسة في الخارج فكانت لإكمال دراستي العليا، ونبتعد عن المحاربة التي كانت تستهدفني، فإذا تحسنت الظروف بعد أربع سنوات نرجع إلى ليبيا وإذا لم تتحسن نبقى في الخارج.

س- هل كان سبب رجوعك إلى ليبيا عام 2011 هو تكليفك بمهام وزير الصحة؟

ج- أنا لم أنقطع عن ليبيا من 1996حتى 2004، حطت بي الرحال في إيرلندا عام 2002، وأصبحت مستشارة وهي وظيفة مرموقة لها دخلها المميز، وأيضا لي عيادتي الخاصة، وفي عام 2006 قدمت ضدي شكوى كيدية في الأمن الخارجي تصفني بالعمالة والخيانة ولم أتمكن من العودة إلى ليبيا خوفاً من الظلم فجاهرت بمعارضتي المستقلة ولم أتبع أي حزب أو تنظيم.

في آخر فبراير عام 2011 وبعد اندلاع الثورة أسست المؤسسة الليبية الإيرلندية للإغاثة واعتمدت أصولها على التبرعات، وهي مؤسسة إنسانية غير ربحية، كنا نتلقى وقتها الطلبات للمعدات الطبية من المستشفيات الليبية فنبعث إلى ليبيا ما يمكننا إرساله، واقترحتُ بأن أفتح مكتباً صحياً تطوعياً في إيرلندا، وبعد أن اكتشفت أن هناك مساومات مقابل العلاج من الداخل والخارج تحت برنامج آلية الدفع المؤقتة طلبت من السيد مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الانتقالي إيقاف البرنامج.

هذا النشاط الذي سبق تشكيل الحكومة المؤقتة جعل رئيس المجلس الانتقالي يقترح اسمي لوزارة الصحة كوني طبيبة في الخارج، ولي علاقات قد تفيد في استجلاب خبرات أجنبية، لم أكن أتوقع  هذا الاقتراح حقيقة، فأنا مستقرة في إيرلندا ولي عيادتي ولدي التزامات، فالبيت والسيارة والعيادة كلها بقروض وما زلت أسددها حتى اليوم، لكن قبلت نداء الواجب الوطني وكنت أتوقع أن أقدم شيئاً لوطني.

س- بعد انتهاء الفترة الوزارية رجعتِ في نهاية 2012 لموطنك الثاني إيرلندا، هل هي نفس الأسباب التي دعتك للسفر والهجرة عام 1996؟

ج- كنت أعتقد أن هناك عدداً كبيراً من الليبيين يطمح للإصلاح والقضاء على الفساد ورفع الظلم، ولكن فوجئت بعكس ذلك، وللأسف فإن الذي شاهدته قبل عام 1996 كان قطرة في بحر ما شاهدته في فترة تكليفي بوزارة الصحة ولذلك رفضت الفساد فشنت عليّ حرب إعلامية في مؤسسات الدولة الإعلامية، وكان ذلك بسبب الفساد في ملف الجرحى الخاص بهيئة شؤون الجرحى وفي وزارة الصحة بشكل عام.

كنت سأستقيل من الوزارة بعد الضغوط التي انهالت علي بعد فتح التحقيق في ملف الفساد، وتم إقناعي بالبقاء من بعض الشخصيات التي كنت أحترمها، ووجدت نفسي مضطرة للبقاء، فمصير دولة في قطاع مهم يتوقف على ما بدأت فيه، قبل نهاية الفترة الوزارية بقليل أخبرني النائب العام عبد العزيز الحصادي الذي اغتيل لاحقاً بأنهم سيقبضون علي بورقة فيها توقيعه المزور.

كنت أريد أن أبقى في البلاد لأنني طيلة فترتي الوزارية كنت أعمل ليلاً ونهاراً، فوجهت لي نصيحة من شخصيات مسؤولة بضرورة مغادرة البلاد خوفاً علي من الاغتيال، حيث وصلتهم معلومات عن محاولات جادة لاغتيالي.

س- هل حاولت استقطاب كوادر طبية ليبية مقيمة خارج ليبيا للاستعانة بها حينما كنت وزيرة للصحة؟

ج- نعم، للوزير سنوياً حق تعيين 100 طبيب من ذوي التخصصات الدقيقة بعقود خاصة للمغتربين، كان في السابق يطبق على الأجانب لكنني رأيت أن الليبيين مغتربون كذلك لأنهم مقيمون في الخارج، والعقود الخاصة مرتباتها تفوق مرتب الوزير بالإضافة لمميزات خاصة، وللأسف الشديد فإن هناك ثلاثة أطباء تقدموا واحدة منهم لم تكن في المستوى المطلوب، وطبيبان تقدما فتم عرقلتهما، ومجموعة بعثوا طلبات لإدارة الخدمات الطبية في الوزارة لكنها تجاهلت طلباتهم، ولما علمت بالأمر تواصلت مع طبيب ليبي مقيم في بريطانيا يملك منظومة تحوي بيانات 2000 طبيب ليبي في الخارج، ونُشر الإعلان بينهم فتفاجأنا بأنهم رفضوا العمل في ليبيا، وقالوا له “أنت تريد تلميع صورة الوزيرة لتبقى في ولاية وزارية ثانية”.

س- هل تتواصل الكوادر الطبية الليبية المقيمة في الخارج مع بعضها ومع الكوادر الطبية في الداخل؟

ج- المشكلة أن هناك خللاً كبيراً في التواصل بين الإثنين، فالكوادر في الداخل تنظر لمن يأتي من الخارج على أنه متعال وقد يحتل ويأخذ مكان من في الداخل، وبعض الكوادر في الخارج تعتقد أنها تتفوق على كوادر الداخل فقط لكونها موجودة في الخارج، وهذا تفكير فيه خلل كبير ويشكل حواجز في التواصل، فلا وجود لتواصل حقيقي أو فعال إلا بين مجموعات صغيرة.

س- ما رأيك في الكوادر الطبية الليبية التي تعمل في الداخل عموما؟

ج- أنا أعتبرهم مجاهدين، “وربي يعينهم”، الطب مسؤولية كبيرة وصعبة، والطبيب لتقديم ما لديه من خبرة وقدرة يحتاج مكملات تتمثل في أجهزة وأدوية وتمريض وإدارة، في ليبيا –وللأسف – لدينا نقص في كل شيء وتثبيط للنفسية التي تؤثر على الطبيب فهو بشر، ويتألم الطبيب لأنه لا يستطيع أن يقدم شيئاً لمريضه الذي يتألم أمامه، وربما يموت، هذا مشهد قاسٍ على نفسية كل طبيب.

س- هل الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها ليبيا اليوم تمنح صكّ الغفران لهجرة الكفاءات الليبية الطبية؟

ج- الهجرة القانونية ليست جريمة في العالم كله، وهذه أرض الله، فعندما تُهان عزة نفسك تضطر للخروج من بلادك، ويبقى تفكيرك الدائم في بلدك، وتتمنى كل يوم أن ترجع لأهلك ووطنك إلا بعض الحالات النادرة التي تتنكر لأصلها.

المهاجر غالباً يحن لوطنه، ولكل مهاجر أسبابه الأمنية أو الاقتصادية وقد تكون للتغيير أحياناً، “ومصير الحي يرجع لبلاده”، أما تخوين من يهاجر فهذه إسطوانة مشروخة، لأن الخونة ليسوا في الخارج فقط، فمن لا يؤدي عمله على الوجه الأكمل في ساعات الدوام ومن يسرق المال العام والمرتشي ومن يبالغ في الكسب بغلاء الأسعار كل هذا خيانة للوطن.

س- هذا يقودني لسؤالك عن تغيّر وجهة نظر بعض الليبيين بعد فبراير في الكوادر الليبية المتميزة التي تحمل جنسية أخرى مع جنسيتها، فكثير منهم عادوا ثم هاجروا، ما تعليقك؟

ج- هذا كلام قيل عني شخصياً، أنا عندما كنت في المطار لأغادر كان هناك قائد ميليشيا متجه للقبض علي بموجب ورقة مزورة عن النائب العام، اعترضه العقيد الراحل صلاح بوحليقة ومنعه من الوصول للمطار، أنا لبّيت نداء وطني وقمت بالواجب وفعلت ما لم يفعله الرجال، وما زلت أقوم  بواجبي تجاه وطني ما دمت حية.

في المقابل بعض السياسيين صدمتنا فيهم كانت كبيرة، وأنا كنت أعتقد أنهم معارضون وطنيون وتبين لنا عكس ذلك تماماً، انتهت معارضتهم بمجرد حصولهم على منصب، إننا بحاجة اليوم لمعارضة أقوى وأكبر لأن حجم الفساد أكبر بكثير من قبل وما يحصل في بلدي لا يرضى به أي حر، وسأكون أول العائدين إلى الوطن عندما تكون هناك دولة حقيقية، تكون دولة بالفعل بمؤسساتها التي يحترم فيها القانون ويسودها العدل.