لطالما أكد رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب في أكثر من مناسبة على ضرورة انخراط المجتمع المدني لا سيما وسائل الإعلام في الحرب على الفساد لكن يبدو أنه ينسى أن مكاتب هيأته تعج هي الأخرى بملفات كثيرة تتعلق بقضايا فساد تمس مجموعة من وسائل الإعلام التونسية ومالكيها.

تسجيل مسرب عده البعض فضيحة في الإعلام التونسي كشف مؤخرا عن أن نبيل القروي مالك قناة “نسمة” الخاصة وهي من القنوات الرئيسية في المشهد الإعلامي التونسي، قد خطط لتشويه منظمة “أنا يقظ” محرضا مجموعة من الصحفيين لضرب صورة المنظمة التي تشن ضده حملة وتتهمه بالفساد.

بتهمة الرشوة واستغلال صفته كإعلامي للحصول على أموال مشبوهة تم بعد فترة وجيزة أيضا إيقاف الإعلامي التونسي سمير الوافي صاحب برنامج “لمن يجرؤ فقط” الذي كانت تبثه قناة “الحوار التونسي” التي تمتلك أعلى نسبة مشاهدة. ولا يزال الوافي قيد الإيقاف في سجن المرناقية بالعاصمة.

وتتعلق هذه القضية التي أثارت صدمة في الرأي العام بعد سلسلة من الايقافات طالت رجال أعمال ومهربين ومسؤولين في الجمارك بتهمة الفساد بوجود شبهة فساد وتلقي رشوة من قبل سمير الوافي.

وهذه أمثلة تشي بأن شبهات الفساد طالت إعلاميين ووسائل الإعلام التونسية والحكومة نفسها تعترف بذلك إذ أكد الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان مهدي بن غربية أن “شبكات الفساد في تونس تشمل إعلاميين وسياسيين وغيرهم”.

المال والإعلام

ويبدو أن أبواب الفساد مفتوحة على مصراعيها داخل بعض وسائل الإعلام، لكن محمد يوسفي الإعلامي وهو عضو بالمكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين يقول إنه “لا يمكن وضع جميع وسائل الإعلام التونسية وكل الصحفيين في سلة واحدة”.

فصحيح أن هناك شبهات فساد تحوم حول بعض مالكي وسائل الإعلام وخاصة في التعاطي الإعلامي غير المهني للبعض من المنتسبين للصحافة التونسية ولكن يوسفي يدعو إلى تنسيب المسألة باعتبار أن السواد الأعظم من الصحفيين “ملتزمون بقواعد المهنة وأخلاقياتها ودورها الاجتماعي في إنارة الرأي العام وكشف الحقائق”.

ويقول متحدثا لموقع “مراسلون” إن نقابة الصحفيين التونسيين نبهت في أكثر من مناسبة من بروز ظاهرة “الصحافة الصفراء وبعض من المواقع الالكترونية التي تقوم بالابتزاز وهتك الأعراض”.

وهذه الصحف يستغلها بعض رجال الأعمال المشبوهين في تونس بهدف تدعيم دورهم السياسي الذي يقومون به من خلف الستار عبر أذرع إعلامية تسيء لأخلاقيات المهنة، على حد تعبيره.

ومن بين رجال الأعمال الذين تم إيقافهم مؤخرا بتهمة الفساد شفيق الجراية الذي مول عددا من الصحف الورقية والالكترونية.

ويؤكد محمد يوسفي على أن نقابة الصحافيين التونسيين بوصفها هيكل مسؤول على أخلاقيات المهنة واستقلالية القطاع الإعلامي لن تتوانى عن التشهير بكل من يتورط في هكذا أفعال مثلما تم في السابق مع رجلي الأعمال شفيق الجراية وكمال اللطيف رجل الأعمال المثير الذي تبجح سابقا أنه كان أحد صانعي الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

ويصرح الكثير من المنتسبين للقطاع الإعلامي بأن فساد بعض وسائل الإعلام التونسية له جذوره وأسبابه فهو لم يأت من عدم.

ومن أبرز أسباب تفشي الفساد –حسب رأيهم- غياب الشفافية وتراخي القضاء في لعب دوره الفعلي لاعتبارات سياسية وهشاشة النماذج الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية.

ويقول محمد اليوسفي “كل هذه الأسباب تمثل أرضية ملائمة تشجع رأس المال الفاسد على التأثير في وسائل الإعلام سياسيا وتبييض الأموال أيضا”.

وبناء على كل هذه الاعتبارات يدعو الكثيرون إلى ضرورة أن تتدخل الهياكل الحكومية بوضع رؤية استراتيجية لدعم استقلالية وسائل الإعلام خاصة المتعثرة من خلال إعفاءات جبائية أو توزيع الإعلانات العمومية بشكل عادل وفقا لشروط موضوعية صارمة من بينها احترام أخلاقيات المهنة دون المس من جوهر حرية الصحافة واستقلالية وسائل الإعلام عن السلطة السياسية.

تمويلات مشبوهة

في العام الماضي قدمت جمعية “الخط” التونسية بشراكة مع منظمة “مراسلون بلا حدود” (فرع ألمانيا) نتائج مشروع “مرصد ملكية وسائل الإعلام التونسية”. وبعد ثلاثة أشهر من البحث والتدقيق حاول فريق العمل دراسة مسألة الشفافية في قطاع الإعلام في محاولة للإجابة على سؤال “من يملك وسائل الإعلام التونسية؟”.

اكتملت الدراسة لتأتي الأرقام مفزعة. إذ صرح رئيس “جمعية الخط” مالك الخضراوي وقتها بأن 60 بالمائة من أصحاب وممولي القنوات التلفزية في تونس “قريبون من دوائر السياسة والحكم”.

ويؤكد الخضراوي أن المشهد الإعلامي له تضارب وتقاطع مع دوائر سياسية، ملاحظا عدم احترام القوانين والمعايير حول الشفافية بشأن مصادر التمويل.

بدورها تقول منية بن حمادي من جمعية الخط ورئيسة تحرير موقع “انكفادا” لـ”مراسلون” إن “القانون التونسي يفرض على وسائل الإعلام أن تكشف مصادر تمويلها وأن تقدم موازناتها السنوية وقائمة المساهمين في رأس مالها ولكن مشروع “مرصد ملكية وسائل الإعلام التونسية” كشف عن أن “20 بالمائة فقط من المؤسسات الإعلامية تصرح بموازناتها المالية أما البقية فيسودهم غموض كبير حتى أننا عجزنا عن معرفة مالكي بعض المؤسسات الإعلامية التونسية”.

وتضيف منية أن هناك وسائل إعلام تحظى بمتابعة كبيرة ولكن لم تتوصل دراسة مرصد ملكية وسائل الإعلام إلى الكشف عن مالكيها.
وأعطت مثالا على ذلك قناة “الحوار التونسي” لصاحبها سامي الفهري الذي لا يوجد اسمه في سجلات مالكي القناة وإنما اسم زوجته التي تظهر في سجل المالكين.

وتضيف منية بأن الإشكال يكمن في أن هناك وسائل إعلام ذات رأس مال أجنبي ويمكن أن تتعلق بها شبهات تهرب ضريبي وقناة “نسمة” الخاصة مثال على ذلك.

وتقول “لقد عجزنا عن تتبع رأس مال قناة نسمة الخاصة إذ أن شركات إنتاج أجنبية شريكة فيها علاوة على الرئيس الايطالي الأسبق برلسكوني الذي يملك هو الأخر أسهما في هذه القناة”.

وقد كشفت تحقيقات أوراق “باناما” أن هناك أصحاب مؤسسات في الجنات الضريبية مثل مالك قناة “تي.أن.أن” الذي ظهر اسمه في تحقيقات أوراق “بنما”.

ونتائج مشروع “مرصد ملكية وسائل الإعلام التونسية” كشفت أيضا أن هناك مؤسسات لا أثر لأسماء مالكيها ولا مصادر تمويلاتها وهي تبث وتتحمل أعباء مادية ضخمة رغم كونها لا تستفيد من أي إعلانات إشهارية لتؤمن مواصلة البث والإنتاج ومن بين الأمثلة قناة “الزيتونة” وقناة الجنوبية”.

وإن كان من الصعب على جمعية “الخط” وشريكتها منظمة “مراسلون بلا حدود” الكشف بشكل جازم عن فساد المؤسسات الإعلامية إلا أن ما توصلت له الدراسة هو إثبات غياب الشفافية في مصادر التمويل وهوية المالكين للعديد من المؤسسات الإعلامية.

وبذلك يبقى باب الفساد مفتوحا على مصراعيه أمام كل من يريدون الاستفادة سياسيا أو اقتصاديا من وسائل الإعلام والعاملين فيها من إعلاميين.

ويضيف أعضاء جمعية الخط وكل الفاعلين في المجال الإعلامي أن الإشكال يكمن أساسا في هيئة التعديل السمعي والبصري “الهايكا” وهي هيئة دورها محدود.

ولمواجهة هذا الوضع الإعلامي الصعب تطمح النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين إلى تنقية الوسط الإعلامي التونسي من بعض التهم التي تحاصره، كخضوعه لسلطة رأس المال الفاسد وتوجيه الرأي العام التونسي نحو خدمة أجندات سياسية لرجال أعمال وسياسيين متورطين في الفساد بحسب تعبير أعضاء المكتب التنفيذي في المؤتمر الأخير لنقابة الصحافيين التونسيين.

وبناء عليه فان التوجه جاد في دعم خيار تعديل المشهد الاعلامي التونسي وتقوية مسار الإصلاح في القطاع عبر مقاربة التعديل والتعديل الذاتي التي من شأنها أن تعزز مكانة الهيئات الدستورية مثل الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري فضلا عن مجلس الصحافة الذي تم الإعلان عن تأسيسه مؤخرا.